"الرحلة" لمحمد الدراجي: تقنيات مُشوِّقة

30 مارس 2018
من "الرحلة" لمحمد الدراجي (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
عندما تتكامل عناصر النجاح، لا يبقى عائقٌ أمام تحقيقه ‏سوى الحظ. لكن العناصر مفقودةٌ، دائمًا، في عقود ‏ماضية، في الفيلم العراقي، الذي جذب الصغير من دون الكبير ‏في كوميديته، والذي عَكَس تجارب "أدب الحرب" مع إيران ‏في مضامينه، في أفلامٍ حربية بطلها واحد، ونتاجها ‏معروف مسبقًا. 

اليوم، نحن أمام تجربة مولودة من ‏رحم معاناة تكاملية، تتنوّع بين التقشّف المالي، ‏والجمهور الواسع والمحبّ للسينما. لكنها هوليوود، من دون علمهم أن ماكنتنا موجودة وتحتاج إلى من ‏يُشغِّلها.

"الرحلة" لمحمد الدراجي، اسم على مسمّى. ‏فالقصّة والغاية تدوران في رحلة مقصودة لا عبثية، ‏بطلتها فتاة مشوَّشة الإيمان، تكسبها جماعات إرهابية ‏وتجنّدها لتنفيذ عمل انتحاري في محطة قطار.‏




مسار العمل لا يجعل المُشاهد يخوض في تفاصيل شتى. فالمسلك واحدٌ، من البداية إلى النهاية، لعاملين مهمّين: ‏الزمان والمكان. فالزمان يعود إلى أول أيام عيد ‏الأضحى المبارك عام 2006؛ والمكان هو المحطة الرئيسية (‏المحطة العالمية)، حيث لسِعته وطابعه المهجور دلالة على الضياع أو الخوف، وهذه ‏نقطة مهمّة في رصيد الفيلم. الحوار ليس طويلاً، ‏فالعدسة تروي الحدث، وتتّجه إلى المسافرين. كأن الدراجي يحاول استحضار فيديريكو فيلّيني ‏وواقعيته الجديدة في العصر الحالي. كاميرا تدور، ‏وممثّلون يقفون ـ للمرّة الأولى على الأرجح ـ أمام عدستها، ‏رغم أن الوجل والخوف ذائبان بعد محاولات تنفيذ المشهد، ‏على ما يبدو. إلا أن ذكاء المخرج، في الارتكاز على ‏جوهر القصة والموسيقى وحكايات المسافرين، يشدّ ‏الأعين، ويغضّ الطرف عن المفترض.

حاول محمد الدراجي، وهو مؤلّف الفيلم أيضًا، أن يخلق العقدة أو ‏الحبكة من الوهلة الأولى: سارة الانتحارية تترقّب كلّ مسافر وموجود في المحطة، من دون ‏أن تعرف وجهاتهم. بشكلّ أدق، كانت تُظهر اللامبالاة ‏في قسمات وجهها، حتى يلفت النظر شخص ممتلئ بالعبثية ومَرِحٌ يُدعى سلام، يتفنّن في المغازلة ‏والتحرّش بالفتيات، ويعتاش على بيع أطراف ‏صناعية مستعملة على أنها جديدة. هو نفسه يحاول اللحاق بسارة، لكنه يقع في ورطة كبيرة عندما يعلم أنها ‏انتحارية.

تشبكه بحالتها، بوضعها قنبلة في جيبه، ‏فتكون تلك اللحظة منعطفًا، ويبدأ التشويق، رغم أن الحاجة ملحّة إلى حوارٍ ثنائيّ مستمر بين السائل (سلام) ‏والمُجيبة (سارة)، حول الدافع من تفجيرها نفسها. ‏إلاّ أن المؤلف اختار حوارًا مُقتضبًا، جاعلاً الأمر يسير باتجاه نقطة تحوّل.

تتوالى أحداث "الرحلة" ‏بشكل يسير. لا يحاول المخرج ـ المؤلّف جعلها ‏مزدحمة، إلى أن تقع فتاة، تبلغ شهرين من عمرها فقط، بين أيديهما. يُصدَم سلام بوالدتها، المُلاحَقَة ‏من عناصر الشرطة العراقية والجيش الأميركي. توحي ‏الفتاة الصغيرة بالحياة والديمومة، وهي تبتسم ‏طوال الوقت معهما.

تتوالى المشاهد البسيطة في العمل، والمُتقنة ‏قياسًا بالواقع السينمائي المتواضع في العراق، حتى ذروة ‏الفيلم. نقاطٌ فنية عديدة تحتاج ‏إلى تحليل سريع: الموسيقى جميلة، تتداخل بين ‏الواقع والخيال من خلال المشهد، وهذا افتقدناه في ‏أعمالنا. المونتاج مُتقن إلى حدّ كبير. ‏أسلوب التصوير متأثّر بعالم هوليوود، كذلك ‏المؤثرات الصوتية، إذْ يُحْدِثُ صوت الباب، مثلاً، تأثيرًا على ‏السمع، ويضيف إلى المشهد لمسةً من التشويق.

"الرحلة" باكورة عمل سينمائي عراقي، عرف ‏المُشاهد العراقي بالدرجة الأولى أن له سينما فاته منها ‏الكثير، وينتظر بعدها (الباكورة) الأكثر، من قصص ‏الطائفية والحياة الاجتماعية الصعبة والهجرة والسياسة‏.
المساهمون