"الخيوط الوهمية" للأميركي بول توماس أندرسن... في مديح الحبّ

01 مارس 2018
دانيال داي ـ لويس في "الخيوط الوهمية"(الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
في كتابه "مديح الحب" (2009)، يحاول الفيلسوف الفرنسي آلان باديو (1937) أن يصل إلى الجوهر والمعنى الحقيقي في "أن يحبّ المرء شخصًا آخر". في إحدى الفقرات المهمّة، يتساءل: "كيف يصبح العالم، حين يمارسه ويعيشه الشخص من وجهة نظر الاختلاف، وليس الهوية؟"، قبل أن يَخْلص إلى أن "الشيء الكلّي في الحبّ هو أنه يقدّم خبرة جديدة للحقيقة حول كيف تكون اثنين وليس واحدًا"، و"مُقابلة العالم واختباره بوعي آخر غير الوعي المُنعزل". 
إذًا، "هذا هو الحبّ، في اعتقادي".

في فيلمه الـ8، "الخيوط الوهمية" (Phantom Thread)، يحاول المخرج الأميركي بول توماس أندرسن (1970)، بشكلٍ مخلص وشخصي وصادق جدًا، أن يفهم "ما هو الحبّ؟"، ويصل، عبر "تحفة" فنية، أقرب إلى الشعر، إلى شيءٍ مقارب لما انتهى إليه آلان باديو.

لا توجد قصة كبيرة، أو لافتة للانتباه، تُروى في الفيلم، المرتكز على رينولدز وودكوك (دانيال داي ـ لويس، 1957)، صانع الأزياء الذي يملك أكبر "بيوت الأزياء البريطانية" وأشهرها، في خمسينيات القرن الـ20، والذي تتغيّر حياته ببطء، عند تعرّفه إلى شابّة تُدعى ألما (فيكي كريبس، 1983)، تكون ـ في البداية ـ ملهمته، والجسد المثالي لأزيائه، قبل أن تدور الأيام بهما، فتفضي إلى وقوعهما في الحبّ، ما يُعرِّض رينولدز لتساؤل عميق، يطرحه على نفسه للمرة الأولى في حياته: إلى أيّ مدى يمكن أن يتنازل ـ كفنان ومبدع ـ عن فرديته وعالمه المرتّب والمحدّد، من أجل الفتاة التي يحبّها؟

محاولة اختصار قصّة الفيلم تقلّل من قيمته. لا توجد منعطفات درامية حادة، أو أحداث كبرى تغيّر مجرى الدراما. لكن، ما يحدث طوال الوقت هو "انسياب" الفيلم، والاعتماد على التفاصيل والحركة واليوميات البسيطة، في دوران ذكي حول السؤال الرئيسي عن "الحبّ"، وقدر "الاستحواذ"، وربما "الهوس" الذي يمكن أن يتملّك المرء إزاء من يُحبّ. وأيضًا: حول كيف يعني أن يقبل المرء بضعفه واحتياجه؟ وأن يخرج بعيدًا عن عزلته ومناطقه الآمنة؟
رينولدز وودكوك هو "الفنان" (بألف ولام التعريف). ممتلئ بذاته وحياته المهنية. لا يرى شخصًا آخر غير نفسه. ألما ـ التي يُعرَف القليل جدًا عن ماضيها وشخصيتها ـ فتاة تدخل حياته بقوّة الحب، تمامًا كما في "الجميلة والوحش"، الرواية الفرنسية (1757) لجان ـ ماري لوبرنس دو بومون (1711 ـ 1780)، وفيلم "ديزني" الكرتوني الشهير (1991) لغاري تروسدال (1960) وكيرك وايز (1963): تغيير في القصر الضخم المرتّب والمنظّم، و"اصطدام" وتشابك وتوتر مكتوم دائمًا عن "قبول الحب" بكلّ ما فيه، حتى لو "غيّر في ذواتنا". إنها حكاية الفيلم من بدايته إلى نهايته.
إلى جانب القيمة الفلسفية تلك، والتناول المبتكر جدًا لـ"الحبّ"، الذي يستطيع استيعاب الهوس والإيذاء، وبشكلٍ لا يشبه أي فيلم آخر، يُقدِّم بول توماس أندرسن "سينما خالصة".


هناك أفلام يمكن أن تتخيّل قراءتها في رواية، أو مشاهدتها على المسرح. لكن، هناك "قِطَع" فنية أخرى "يجب" مُشاهدتها، فقط بهذا الوسيط. إذْ كيف يمكن أن يُنقل هذا التوتر في مشهد "العشاء الأخير"، بين رينولدز وألما؟ النظرات المكتومة والممتلئة بالمعنى، والطريقة التي يأكل بها من الطعام وهو ينظر ناحيتها؟ كيف يمكن للكلمات أن تنقل تصاعد اهتمامهما المتبادل على مدى الأحداث؟ أو نظرات ألما الغيورة والمعجبة والمكتومة، حين يصمِّم فستانًا آخر لامرأة غيرها؟ الوسيط السينمائي، فقط، يمكنه أن يستوعب ذلك بهذا الشكل. استخدام المونتاج (ديلان تيكنور، 1968) وشريط الصوت والتصوير (أندرسن نفسه) والموسيقى المدهشة (جوني غرينوود، 1971)، ونظرات الممثلين وأنفاسهم: استخدام هذا كلّه لـ"الحكي" والتعبير عن قصّة ما بشكلٍ لا يمكن نقله بطريقة أخرى.

تلك هي "السينما الخالصة"، التي يقدمها بول توماس أندرسن في "الخيوط الوهمية".
إلى هذا كلّه، هناك "وداعية" مدهشة لدانيال داي ـ لويس، الذي أعلن أن هذا هو آخر أفلامه.
رغم أن دوره هذا يبدو، لوهلة أولى، غير "مُبهر"، كدوره في "ستكون هناك دماء" (2007) لأندرسن أيضًا، أو "قدمي اليسرى" (1989) لجيم شريدان (1949)، وغيرها من الأدوار التي اعتمد فيها داي ـ لويس على جسده وملامحه وصوته بشكل خارجي معبّر جدًا، إلاّ أن دور رينولدز وودكوك، في عمقه، واحدٌ من أنضج أدواره وأجملها. ورغم ذلك، لا تجعله الممثلة فيكي كريبس يخطف الشاشة وحده. ففي اختيار خارق الذكاء والفنيّة، جعل أندرسن ممثلةً شبه مغمورة ووجهًا غير معروف تقف أمام دانيال داي ـ لويس نفسه وتنافسه، تمامًا كما "ناطحت" شخصية ألما حبيبها وغريمها رينولدز في الفيلم. هذا أثر لم يكن ممكنًا أن يتحقّق أبدًا، لو كانت الممثلة المُختارة ذات وجه مشهور ومعروف.

يقول بول توماس أندرسن إنّ فكرة الفيلم جاءته حين مَرِضَ ذات مرة، ورأى في عيني زوجته مايا نظرة اهتمام وعاطفة، لم يرها منذ وقت طويل؛ فسعى (كتب سيناريو الفيلم أيضًا) إلى أن يفهم "ما الذي يعنيه هذا كلّه؟"، و"كيف يشعر "الفنان" إزاء الحبّ؟"، ما جعله يُنجز "الخيوط الوهمية".

أما النتيجة، فليست في تحقيق أحد أفضل أفلام العام 2017، إن لم يكن أفضلها على الإطلاق، بل أيضًا في تحقيق أحد أنضج الأفلام الرومانسية وأجملها، في تاريخ السينما، بشكلٍ عام.
دلالات
المساهمون