"الحداثة الخجولة": أرسطو وشرّاحه.. الحوار مستمر

02 مايو 2017
(من ترجمة عربية لـ"سر الأسرار" المنسوب لأرسطو)
+ الخط -
لئن شكّلت المفردات السياسية العربية حقلاً اصطلاحياً مُستقلاً ما فتئ يغتني، دون انقطاعٍ، منذ القرن التاسع عشر، توليداً ونقداً وترجمةً، فإنَّ محاولات تأهيل هذه المفردات وربطها بذاكرتها المفهومية، الناشئة في العصر الوسيط، تظلّ نادرة. كما أنَّ محاولات تحديث المصطلح السياسي العربي، عبر ربطه المتسرّع بالحداثة الغربية، وما أنتجته من خطاباتٍ أيديولوجية وتيارات حزبية، هي من أسباب الاغتراب عن الذات والانكفاء داخل المقولات التي صاغها الآخرُ.

من هذا الإشكال المضاعف جاءت الدعوة إلى كسر البناء الخفيّ الذي يباطن الفكر السياسي العربي، وفك ارتباطه بالحداثة الغربية، التي قامت على منطق القوة وكونية المدنية وشمولية القيم الثقافية وكليانتها، مع نزوعٍ متواصلٍ نَحو عَسكرة الإمبراطورية المهيمنة.

تشكل هذه الدعوة فَحوى السؤال المركزي الذي عالجه الأكاديمي التونسي محمد علي الكبسي في آخر مؤلفاته "الحداثة الخجولة"، ("منشورات المعهد العالي للعلوم الإنسانية" و"مجمع الأطرش"، في تونس). وقد خصّصه للبحث في إسهام الفيلسوف أرسطو في مجال السياسة ولتحليل خطابات شرّاحه وقرّائه من الفلاسفة العرب-المسلمين، مثل ابن رشد وابن سينا وابن الهيثم وابن خلدون.

بيد أنَّ زاوية النظر التي ستوجّه بحثنا هنا، هي كيفيات التأصيل الفكري للمصطلح السياسي العربي المعاصر ومدى شرعية ربطه بالتأمل الفلسفي في المرحلتيْن: الأرسطية والعربية-الإسلامية، مع ما في اللحظتيْن من التراكم والقطيعة. فما هي مشروعيةُ العودة إلى المَتن الوسيط لفهم إشكاليات التوليد المعجمي في الحَقل السياسي الراهن؟

في كتاب "الحداثة الخجولة"، يعيد الكبسي استكشاف المفاهيم السياسية في التراث الأرسطي، مُخرجاً إياها من الصورة المتعارف عليها، والتي تقترن بالتجريد المنطقي والتأمل النظري، وذلك من خلال التركيز على "رسالة السياسة" المَنسوبة إلى الفيلسوف اليوناني، فيؤكد الكاتب هذه النسبة، ثمَّ يتجوّل، في الفصول الموالية، عبر نصوص الشراح والمعلّقين من الفلاسفة العرب المسلمين، واختار أربعةً منهم وهم: ابن سينا وابن الهيثم من المشرق، وابن رشد وابن خلدون من المغرب.

أظهر الباحث التونسي أنَّ مفاهيم مثل :الدولة والمُلك والإمارة والعصبية والتدبير والتعقل، وهي التي تشكّل سدى المصطلح السياسي العربي الحديث ولُحمتَه، إنما تشكّلت، أوَّل ما تشكّلت، من تلاقي تعاليم أرسطو، "المُعلّم الأول"، وما شَيَّده عليها الفلاسفة العرب من إضافات وتنقيحات وشروحٍ وإصلاحاتٍ، اغتنت من سجلاتهم العربية الإسلامية، بما فيها من مشارب الفقه ومنازع التصوّف والإشراق.

وهكذا كان البحث بفصوله الأربعة قراءةً في الحوار الفلسفي بين أرسطو وشرّاحه من المسلمين: سعى ابن سينا أن يقرأه قراءَة الندِّ للندِّ، وانتقد ابن الهيثم نظريّته في الحركة الكونية وانتظام كواكب العالم، وأما فيلسوفا الغَرْب الإسلامي، ابن رشد وابن خلدون، فقد شَكَّكا في تجانس هذا التصوّر الأرسطي، وخلخلا صفاءه عبر مفاهيم التجريب العلمي والعُمران البشري.

على أنَّ ما يلفت في هذا الكتاب - إلى جانب هذا البحث التاريخي الإشكالي في صدقية الرسالة السياسية المنسوبة لأرسطو ومدى تأثر العرب بها ومضمون ردودهم المعرفية عليها من خلال المنظور الإسلامي - هو وجود فرضيتَيْ عَمل واعِدتَيْن تستحقان الوقوف عندها.

الأولى: هي التأكيد على وجود عناصر رائدة للحداثة السياسية، في كتب التراث الفلسفي العربي، وهي حداثة "حوارية تسامحية تنوعيّة"، تقطع مع حداثة البناء الإمبراطوري الكَوني الراهنة، والقائمة فقط على الصراع الذي يُغيّب الفرد ويقصيه ضمن الهيمنة المالية. فكل ما كتبه ابن سينا في "الشفا" و"الإلهيات"، والفارابي في "المدينة الفاضلة" مشرقاً، وما صاغه ابن الهيثم وابن خلدون مغرباً – تشكل كلها بدايات نظام سياسي تعاقدي، لا يطغى فيه المَلِكُ العاقل على رعيته، وتعمل الرعيّة تحت إمرته لتحقيق الكمال التعاقدي.

الثانية: ضرورة تَحيين المعاني الفلسفية الوسيطة وربطها بالمصطلح السياسي العربي الحديث، عبر التدخل في صياغة مَضامينه وربطها بالمفاهيم المركزيّة مثل: الدولة، المُلك، الإمارة، المجتمع والعصبية، وكذلك بذاكرتها الفلسفية أي: بحضورها ضمن أنساق ما ورائية وأخلاقية تأمليَّة، وهو ما من شأنه أن يغنيَ الخطاب العربي ويضيف إلى مفرداته طبقة دلالية عقلانية، تتأتى من سُمكها المفهومي، وهذا كفيلٌ بأن يدعمَ تأثيل الكلمات (والعبارة للمُعجمي التونسي إبراهيم بن مراد) أي تأكيد انتمائها إلى نسق فلسفي أصيل، تَوَلَّد من خلال مقارعة المتن الأرسطي بالتأويل الإسلامي على اختلاف مشاربه ونزعاته.

فحين نأخذ مفردة "المشاركة" مثلاً، ونجهد في متابعة أصولها خلال انتقالها من النسق الأرسطي إلى البيئة الفلسفية الإسلامية، مع ذكر الإحالات والمعاني الحافة والصور التي تستند إليها وتغذيها خلال تجوالها، نكتشف تنوّع طبقاتها الدلالية وثراءها. ويمكن بعدها تطبيق نفس هذا المنهج على كل المصطلحات السياسية المتاحة، وهو ما يعين على تشكيل مَكْنَزٍ معجمي، يربط حديث المعاني بماضيها، ويُجلِّي في القديم مَظاهر حداثته - وإن كانت خَجولة ومجتزأة - ونخلص في النهاية إلى تَصوّر شامل يتضمّن عن كلِّ مفردةٍ مساراً خطياً تاماً، منطلقه في المتن الهليني ومرجعه في الفكر الإسلامي ومنتهاه في التداول الحالي.

وقد اعتبر المؤلف هذه الحداثة "خجولة" لأنها نشأت طيَّ نصوص القدماء، فرغم انحباسها ضمن دائرة المفكّر فيه وما يسمح التفكير فيه، ورغم خضوعها للإكراهات الدينية والسياسية المعروفة، تمكّنت من كسر الطوق والنفاذ العقلي إلى نفس مبادئ حداثة الغرب، واستجلاء مَضامينها والتعبير عنها بلغة وسيطية، قبل أن تتبلور نهائياً في القرن العشرين. ويكفي على ذلك شاهدًا مقولة ابن خلدون: "السوق الأعظم للعالم"، التي تلخص وضعية العالم بما هو مجال تداول اقتصادي مفتوحٍ، وما يقتضيه ذلك من تحلل "عُرَى التناصر".

ولعلَّ العودة إلى الفضاء الدلالي - بطبيعته الفلسفية - أن تخفف من وطأة البراغماتية السياسية وترشد الممارسات في العالم العربي الراهنة، حتى نلج الحداثة "وجوداً تنوّعياً". وليس هذا الولوج مساراً فردياً بل يقتضي تضافر مجهودات الباحثين. ومن أدواته الممكنة - والتي غابت نسبيا في هذا الكتاب - المنهج الفيلولوجي الرصين الذي يساعد في ربطٍ أمتن بين المتن الأرسطي ونصوص قارئيه، مع تحليل مظاهر التناص والتحاور بينهما، والإشارة إلى إحالات دقيقة وصارمة، وليس مجرّد تخمينات. ويستتبع إجراء مثل هذه القراءة تخفيف لغة التحليل من تعقدٍ لا طائل وَرَاءه وصياغة جملٍ واضحةٍ تساعد العقل على الاستيعاب اليسير للحداثة، وإن على استحياءٍ.

المساهمون