"التطبيع" أسلوب حياة

19 يونيو 2019
+ الخط -
تخرج علينا ممثلة مذيعة في برنامج ضخم مستضيفة إحدى الفنانات الشابات محتفية بقصتها وفنان مشهور، واصفة علاقتهما "بالشيء الجميل"، تتبعها أخرى تستضيف نفس الممثلة لتحكي لها عن مدى "سعادتنا جميعا" بهذه العلاقة وكيف أنها أثمرت تقدما فنيا للطرفين أمتع جمهوريهما؛ هذا إضافة إلى الزج عنوة بذات الممثلة في إعلان لمطربها، يذاع على الناس في الفواصل وبين الفقرات وعلى مواقع التواصل الاجتماعي؛ ممثلة أخرى تظهر في العديد من البرامج لتخبرنا عن صداقتها القوية "لأنتيمها" فلان؛ برنامج آخر على درجة عالية من الانتشار يستضيف مشاهير، يكشف لنا جوانب شخصية دقيقة خافية لا يستطيع الضيف إنكارها؛ برنامج آخر يصور في ديكور على هيئة منزل به ثلاثة شباب يستضيفون ممثلة ليستفزوها حول مكانة المرأة، في إطار الصداقة!

سيل من الانحرافات الأخلاقية يصم مجتمعا كاملا برذائل هو بريء منها لا يتناسب ومحافظته فضلا عن إسلاميته، تصدره أنظمة سياسية عربية مفسدة لشعوبها عبر وزارات ثقافة تنشر الفسق وتحض عليه منذ أكثر من سبعين سنة، "تبروز" صور علاقات مشبوهة في أطر شريفة باستخدام "سيناريوهات" لئيمة وحوارات ساقطة تدرجت من السيئ إلى الأسوأ، وإذا ما رفض الجمهور، تتهمه بأنه متخلف، مريض نفسي، ذو نوايا خبيثة!

وجدير بالذكر هنا موقف وزير إعلام مصر في حكومة مبارك، عندما سئل عن تأثير الفضائيات السلبي على الأخلاق، فرد بمنطق الشيطان: "وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي، فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم"، وقال: "الريموت في يدك".


صار نشر سوء الخلق من خلال فيلم أو مسلسل تخيلي غير كافٍ فتخطى إلى واقع برامج يتحدث فيها نجوم اعتادهم الناس وارتبطوا بهم. لا يستطيع أحد أن يتجاهل مدى تأثير الأعمال الفنية والفنانين في أخلاقيات المجتمعات، وخاصة شباب اليوم، فحائط الصد من التدين والقيم أسقطته فتن الثورة، فشب جيل جديد متمرد، يتلقى خبراته من مواقع التواصل، ومن ألوان الفنون غير الراقية المتاحة له.

لا يحتاج الأمر إلى بحث عن الأسرار كما كان في الماضي، فهناك من يجتهد لأن يصبح الشخصي عاماً، وصار الإصرار على تقديم هذه النوعية من المواد المفسدة عابرا المحطات الفضائية العربية بإعداد لا يمكن إلا أن يكون قد تم على عين قنوات مخابراتية متخصصة. وبالتأكيد لا يهم ما تفعله فلانة أو فلان فهذا أمر مرجعه إلى الله، ما يعنينا هو تأثير ذلك على مجتمع إسلامي يراد له أن يتغرب عن هويته وعاداته وأعرافه؛ بحيث يصير المستبعد محتملا، والحرام حلالا، والمستحيل ممكنا، والعيب مألوفا. إنها محاولات دؤوبة لنشر الخرائب ليفقد الناس حاسة الشم فلا يميزوا بين عبير الورد وبخر العفن.

إن عملية التطبيع تعني جعل العلاقات المقطوعة طبيعية بعد فترة من التوتر لأي سبب كان؛ وإن التطبيع مع وضيع الخلق والمبادئ والمنطلقات هو نوع من أنواع التطبيع مع الباطل، والحرام، والعيب، وهو نتيجة منطقية للتطبيع الأول مع الخيانة لصالح العدو الذي ارتأت قيادات الشعوب العربية المسلمة أنه صار جزءاً طبيعياً من جسد الأمة.

بدأ التطبيع السياسي مع الكيان الصهيوني مبكراً مع وعد بلفور وليس كما أشيع بأنه مرر مع معاهدة سلام مصر، كانت هناك مراسلات ومكاتبات واتفاقيات بين قادة العرب وبين بريطانيا أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية بخصوص إسقاط الدولة العثمانية وتقسيمات طمعوا فيها.

خطط المستعمر لنشر القومية العربية المتعالية كبديل للهوية الإسلامية الجامعة، وحول القضية الفلسطينية من مسألة ترتبط بالعقيدة الراسخة إلى شعارات رنانة متغيرة؛ فهو لا يستطيع أن يزحزح مسلماً عن ارتباطه بمعراج رسوله وأولى قبلتيه وثالث مسجد يشد رحاله إليه، لكنه يستطيع أن يقنعه مع تباعد الزمان وجهله بالتاريخ إذا ما رسخ في عقله الفكر القومي، أن أصحاب الأرض باعوها، وأن أهلها صاروا مصدر تهديد له، وأن الماضي انتهي وأن عليه أن ينظر إلى الحاضر.

صار التطبيع فاضحاً بظهور قوادين جدد بعد موجة انقلابات على الربيع العربي، لم يعد هناك داع للخجل، فقد أصابت حكوماتهم الناس بالعمى، فما عادوا يميزون بين أسود الخيانة وأبيض الأمانة، ولا زاهي الصدق ودامس الكذب. ترى رؤساء وملوك العرب يصافحون رئيس وزراء الكيان وابتسامة الرجاء تعلو وجوههم؛ يسبهم المستعمر ويلتقطون مع قادته صوراً مذلة، يستنزفون لإرضائهم ولمتعتهم الخاصة ثروات شعوب تئن مرضاً إثر تطبيع زراعي سمم الأراضي وأهلك الزرع والنسل، وتطبيع صناعي نشر المرض، وتطبيع اقتصادي دهس غالبية الشعوب تحت خط الفقر، وتطبيع إعلامي غسل الأدمغة وأفرز أجيالاً لا تعرف لها تاريخاً وبالكاد تحفظ دينها، وتطبيع تعليمي أخرج عقولاً جاهلة فارغة، وتطبيع حربي أنتج جيوشاً تحارب أبناء جلدتها بالوكالة. كان التطبيع السياسي خفياً في الماضي إلى أن أصبح في الحاضر مطلباً مشروعاً بناء على صداقة آثمة يتباهى بها الطرفان ليشمل كافة نواحي الحياة.

اليوم، صارت الخيانة أمرا طبيعيا، كما المحتوى البرامجي الفني الفاسد، يزهو بها حكام العرب، ويستسيغها المبرمجون من قبل أنظمتهم بديلة المستعمر، يتلقون مبررات الفحش السياسي والقيمي بآذانهم ويرددونها بألسنتهم، فيبدو الأمر وكأن شعوباً مقهورة وصمت بكل نقيصة راضية بانحلال تطبيعي على كافة المستويات، تضحك منهم أنظمة محتلة كبرى تسخر منها بدورها منظمة تتلاعب بخيوط كل تلك الدمى، تظن أنها سيطرت على الأرض ومن فيها، وتنسى أن الملك لله الواحد القهار.
7048540C-B765-4399-A999-CB7869F215E2
رانيا مصطفى
باحثة مهتمة بالتاريخ والسياسة والأدب والعلوم الإنسانية. تقول: كل فكرة فى مقال ماهى إلا رسالة فى زجاجة ملقاة فى بحر تتقاذفها أمواج الأيام حتى تصل إلى من يهمه الأمر