عن الفشل الثوري

23 فبراير 2022
+ الخط -

يقول ونستون تشرشل: "عصب الحرب هو المال". إن المال هو المحرك الأساسي لكل حراك عالمي ومحلي؛ لجنيه تقوم الثورات وتندلع الحروب، ومن أجله تُغتال العقائد الضامنة لتلاحم  أعضاء الجماعة البشرية، والتي تقف عائقا أمام عمليات سطو ونهب يمارسها النظامان (الرأسمالي والاشتراكي).

تعد الثورة -منذ أن نشأت في أوروبا- أحد مخالب الصراع الاقتصادي، فلا ثورة تشتعل دون تمويل ضخم يعتمد على جيوب المستثمرين فيها، لا على خزائن الدول كما الحروب؛ لذلك لا يمكن تقييم نجاح أو فشل الأطهار الذين اعتنقوا أفكارها بمقاييس مثالية؛ فالحكم على المكسب، أو الخسارة سيكون قطعا غير عادل، لاعتماد الممول على الأعمال والأسلحة الأعلى تكلفة والأكثر قذارة.

إن مرور الأوطان بثورات لا تنتهي بتغيير يرضيها يشكل صدمات مروعة لأجيالها الصاعدة. بتطبيق نموذج طبيبة النفس السويدية (إليزابيث كوبلر روس) على الثورة المصرية، سأوضح "مراحل الحزن الخمسة" التي تعيشها الشعوب المنهزمة.

المرحلة الأولى: الإنكار (أنا بخير، لا يمكن أن يحدث هذا لي)

بدأت عندما دعا الثوار لمليونيات بعد انصراف الجماهير من ميدان التحرير 2011 "إجبارا لا اختيارا"، وعندما اعتصموا في رابعة عقب إعلان انقلاب 2013.

المرحلة الثانية: الغضب (هذا ليس عدلاً، من المَلُومُ على ذلك)

اشتعلت حين سيطر الجيش أثناء الثورة؛ ثم ارتكب مجازر وحشية بعد الانقلاب. تعد هذه المرحلة هي الأعنف، حيث غاب العقل، واندفعت حمم العواطف والأحلام، وتناثرت شظايا الاتهام، دون الارتكاز على حقائق أو منطق.

ليست الخيبة خسارة شوط، فالأيام دول، بل هي سقوط المقاتل وسط غبار حرب نفسية يشنها عدوه ضده، فيقنعه أنه قد قتل، وأنه مستلق داخل قبره في انتظار قيامته!

المرحلة الثالثة: المساومة (ماذا لو فقط)

تحول غضب الثوار إلى حزن عميق يبحث عن أي بصيص ضوء يخرجهم من النفق سواء كان شعاع شمس أم مصباح قطار يعيد دهسهم؛ فاستجابوا لدعوات النزول، والطرق على الأواني، والصفير، والقبول بمساومات مع المنقلب.

المرحلة الرابعة: الاكتئاب (ما الفائدة من أي شيء؟)

فجرت هذه المرحلة حالات من فوضى المشاعر، وتخبط الأفكار، واستسلام للعجز؛ فتراجع الثوار بعد أن أدرك عقلهم الجمعي أن ما يحدث أكبر من قدراتهم وأنهم يدورون في حلقات مفرغة.

المرحلة الخامسة: التقبل (ما حدث قد حدث ويجب أن أكمل)

لم يلج الثوار باب هذه المرحلة، فعلقوا في مرحلة الغضب من قهر العالم لتجربتهم، وقرروا أن الحل الوحيد هو تكرار يناير، ورفضوا استيعاب أن الثورة في حقيقتها هي بوابة زمنية اقتصادية سياسية عالمية تفتح في زمان ومكان لا يحددهما الشعب. أستطيع أن أؤكد أن العامة وكبار القادة الفاعلين من كافة الفصائل كانوا الأقدر على قراءة المشهد باكرا نتيجة خبراتهم المتراكمة، لذلك سبقوا نحو التقبل.

ليس هناك إعلام محايد، فكل جهة سياسية تروج لإعلامها الخاص كمنصة معتدلة، ومن خلاله تقدم نسختها للأحداث التي تكاد تكون مطابقة للحقيقية. استغل الإعلام المنقلب والمعارض قدرتيهما على توجيه الرأي العام، فقاما بتمزيق الجسد الثوري، والتمثيل بثورة مصر باستخدام نفس الأدوات والأساليب، فبخسا قيمة لحظات فارقات من عمر الوطن، وحولاها لمواد للسخرية؛ وحرصا معا على إغراق الثوار في بحر من الهزيمة، وحبسهم داخل مرحلتي الإنكار والاكتئاب، بعيدا عن الاتزان العقلي والنفسي.

إن أخس ما قد يقدمه إعلام لثائر مصدوم، هو اللعب على أوتار آلامه، واستغلال نقاط ضعفه؛ وترسيخ شعوره باحتقار نفسه، وإغراقه في ظلام جلد ذاته، واتهامه بالجبن لعجزه، وتشويه نجاحاته، وتحريف أهدافه، واستهلاك بقايا طاقته بغرض تغيير مساره، ودفعه لاستبدال الصالح بالطالح من رموزه، ليستسلم لأي حل أملا في النجاة.

يمكن اختصار ما قدمه الإعلام في عبارة "العبرة بالنهايات" التي صدرها كدليل على فشل الثورة، وأقول إن الخواتيم نفسها تبرهن على الفوز، فيناير نجحت في فرض خمس استحقاقات انتخابية كبرى، وجماعة الإخوان وصلت للحكم، وقياداتها صمدت، وانهارت أمامها شعبية الانقلاب، وصار كل المعارضين ينسبون إليها!

ناقشت كثيرين حول أسباب الفشل الثوري، فلم أسمع سوى تكرار لمقررات إعلامية مغلوطة حملت الإخوان فاتورة الخطايا، أو اقتراحات نُفذت بالفعل وتجاهلتها دول العالم دعما للانقلاب، أو مقارنات غير عادلة بثورات عالمية، أو محاولات جربتها دول ربيع عربي أفضت لنفس المصير؛ وأغرب ما قرأت كان اتهام شرفاء تولوا الحكم بعد الثورة بالسذاجة لأنهم لم يسلكوا دروب المجرمين! أو لأنهم لم يقاتلوا في مواجهة ترسانة أسلحة عالمية!

يكتفي الجميع بالإقرار بالإخفاق في استسلام عجيب للفكرة دون دراسة مدققة! إن الفشل الحقيقي هو ألا يملك لاعن خط سير الثورة رؤية "واقعية" مرتبة للبدائل! أن يتحول المحللون لأحداث أريقت فيها دماء غالية وتعذبت من أجلها أرواح نقية، إلى أطفال يتخلصون من لعبة الثورة التي خربوها ويبكون رغبة في أخرى جديدة!

تنحصر أسباب الفشل الثوري في تعجل فريقي الثورة جمع الغنائم، فالعلماني طمع في سلطة لم يهيئ نفسه للحصول عليها، والإسلامي أراد تطبيق كل الشريعة في خطوة واحدة، لم يستطيعا صبرا فانقلبا معا ضد نظام وليد كانا يستطيعان استبداله بصندوق انتخابي.

ليست الخيبة خسارة شوط، فالأيام دول، بل هي سقوط المقاتل وسط غبار حرب نفسية يشنها عدوه ضده، فيقنعه أنه قد قتل، وأنه مستلق داخل قبره في انتظار قيامته! يفوز بالمعارك ذو النفس الطويل، الذي يدرك أن القضاء على مسخ لئيم لن يكون بالضربة القاضية في الجولة الأولى!

إن الانتصار يكمن في تخطي كل موجة عالية على حدة، وليس في إجبار البحر الهائج على أن يسكن. الموج في الطقس السيئ لا يهدأ، وكذا يجب أن تكون عزيمة من يصارعه.

7048540C-B765-4399-A999-CB7869F215E2
رانيا مصطفى
باحثة مهتمة بالتاريخ والسياسة والأدب والعلوم الإنسانية. تقول: كل فكرة فى مقال ماهى إلا رسالة فى زجاجة ملقاة فى بحر تتقاذفها أمواج الأيام حتى تصل إلى من يهمه الأمر