27 أكتوبر 2024
"الإخوان" والتَمركُز حول الذات
عاد الناشط المصري وائل غنيم إلى المشهد الإعلامي والسياسي في مصر مجدداً، بعد صمت طويل، عبر صفحته الرسمية في "فيسبوك"، معترفاً بخطئه في قراءة الأحداث التي تلت ثورة 25 يناير، ومقرّاً بأنه أساء التقدير في تقييم أحداث "30 يونيو" وما تبعها، إلا أنه قال إن المعركة بين المجلس العسكري والإخوان المسلمين "معركة صفرية"، ظاهرها الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان، وباطنها صراع بين طرفين، لا يعترفان بالحرية والديمقراطية، وكلاهما يريد احتكار السلطة والسيطرة على مقاليد الحكم وقمع المعارضين.
وأشاع ظهور غنيم حالة من الجدل، وصلت إلى التراشق وتبادل الاتهامات، بين القوى الشبابية لثورة 25 يناير وجماعة الإخوان المسلمين، حيث شهدت مواقع التواصل الاجتماعي سجالاً ساخناً بين الطرفيْن، بلغ حدّ التخوين المُتبادل.
يرى "الإخوان" أنهم العمود الفقري لثورة 25 يناير، والكتلة الشعبية الصلبة التي لولاها ما نجحت الثورة في خلع حسني مبارك، كما يرون أنهم الطرف الذي دفع ثمناً باهظاً في مواجهة القمع ومازال حتى اللحظة. وعليه، لا يحقّ لأي طرف أيّد خلع محمد مرسي، وخذل الجماعة في معركة "الشرعية" أن يوجّه سهام النقد لها، وإنّما عليه أن يعتذر اعتذاراً حارّاً عن "خطيئة"معارضة مرسي، والخروج في "30 يونيو"، وربما قال بعضهم إن على القوى الشبابية أن تجتمع في رهط غفير، وتقف في صعيد واحد، لتتقدم بأسمى عبارات "الندم والتوبة" على ما اقترفته في حق الجماعة طالبة العفو والصفح.
وترى القوى الشبابية أن الجماعة تخلّت مبكّراً عن الثورة، عندما كانت أول من غادر الميدان، تاركة رفاق الثورة، ولهثت وراء السلطة، وسعت إلى الاستئثار بحصد الثمار وحدها، من دون بقية شركائها، إلى جانب نكثها وعوداً قطعتها على نفسها، عندما تعهّد مرسي بتعهدات ظلّت كلاماً لم يخرج إلى حيّز التنفيذ.
وتقتضي الموضوعية القول إن المساواة بين الطرفين أمرٌ يجافي الإنصاف، إذ تقول طبائع الأمور إن الشباب، بحكم السنّ والخبرة، قد يقع في أخطاء ناتجة عن سوء التقدير. ولكن، كيف الحال بفصيل سياسي كبير عمره جاوز الثمانين عاماً أن يرتكب الأخطاء نفسها، مرّة تلو أخرى، ولا يعتبر منها؟ كما أن من وصل إلى سدّة السلطة، وفاز بمنصب رئاسة الدولة، وظلّ فيها عاماً كاملاً (سبقه الفوز بالأغلبية البرلمانية ورئاسة السلطة التشريعية) بالطبع ليس كمن لم يحصل على شيء من السلطة، ولم يُمكّن منها. فبعد نجاحها في إطاحة حسني مبارك، كشفت الثورة موازين القوى عن وجود كتلتيْن تنظيميتيْن كبيرتيْن، هما الجيش وجماعة الإخوان المسلمين، وكان من المفترض أن تكون الجماعة "قاطرة" القوى الثورية، وليس "القاطرة" و"القطار" معاً كما حدث لاحقاً، إلا كتلتها الكبيرة وتنظيمها الضخم المتشعّب، مقارنة بتشرذم القوى الأخرى، منحها شعوراً بالغطرسة، وصل إلى حد "النرجسية"، لاسيّما بعد نتيجة استفتاء 19 مارس/آذار 2012 الشهير على التعديلات الدستورية.
وما يستحق التوّقف والدهشة معاً أن الجماعة كررّت الأخطاء نفسها التي ارتكبتها بعد فوزها بالأغلبية البرلمانية، عقب فوز محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية، حيث تجاهلت الجماعة القوى الثورية، لا سيّما الشبابية منها، بل وحتى القوى الإسلامية المتحالفة معها، وسعت، بشكل حثيث، إلى الاستحواذ والاستئثار، كما أنها فشلت في استيعاب معارضيها، عندما أدارت قيادات الجماعة الأزمة معهم على أنها مباراة "صفرية"، استخدمت فيها الحشد والتعبئة أداة وحيدة في مواجهة خصومها، ما زاد من تأزّم الأزمة، وأصرّت الجماعة على أن:
إمّا أن تربح كل شيء، أو تخسر كل شيء، فرفضت تقديم أي تنازل حتى النهاية، ويُمكن، هنا، أن نعقد مقارنة بين موقف الجماعة في مصر وموقف حركة النهضة في تونس، حتى يتضّح الفارق بين الجمود والمرونة.
ارتكبت الجماعة أخطاء سياسية واستراتيجية فادحة، كان لها أكبر الأثر في التعجيل بخروجها من سدّة السلطة، حيث بدا واضحاً افتقادها رؤية مكتملة قادرة على التعامل مع المشكلات الكبيرة والمعقّدة التي تعاني منها مصر، وظلّ خطابها أسيراً للشعارات الهوياتية والعبارات الإنشائية التي تهدف إلى الحشد العاطفي، وتجييش المشاعر الدينية، كما ظهر جلياً أن مشروع الجماعة هو مشروع "معارضة" بالأساس، وليس مشروع "سلطة"، حيث غلبت النزعة المُعارِضة على خطابها وسلوكها، كما كانت تفعل إبّان عهد مبارك، عندما كانت في مقعد المعارضة، وكأنّ جسدها في السلطة وروحها في المعارضة. كما أنها فشلت في التحررّ من ضيق عقلية التنظيم المُغلَق، والخروج إلى سعة الوطن بتعددّ أطيافه السياسية ومكوناته الاجتماعية، فأدارت الوطن على اتساعه بقواعد إدارة التنظيم نفسها على ضيقه، ولم تعرف الحد الفاصل بين الحالتيْن.
وحتى بعد إطاحة مرسي، مدّت قيادات الجماعة خطّ الحلّ "الصفري" على استقامته، ورفعت شعار "لا بديل عن عودة مرسي وإسقاط الانقلاب" عبر التظاهر ثمّ التظاهر، وهو خيار يستهدف، أساساً، الحفاظ على البناء التنظيمي للجماعة، والحؤول دون انفراط عقد التنظيم، أو وقوع انشقاق كبير في جسده، كما أن هذا الخيار يحمي تلك القيادات من المحاسبة الداخلية، وتحمّل مسئولية الأخطاء التي وقعت في الأعوام الماضية.
وعلى الرغم من التكلفة الباهظة التي دفعتها جماعة الإخوان المسلمين من دماء أبنائها وحريتهم، خصوصاً بعد المذبحة في فضّ اعتصامي ميداني رابعة العدوية والنهضة، إلا أنها لم تحاول أن تعطي لنفسها هدنة لالتقاط الأنفاس، مبررّة هذا بعدم قدرتها على السيطرة على حماس قواعدها الشبابية، إلا أنه وبسبب استمرار قمع السلطة من جهة، وإصرار القيادات على المواجهة "الصفرية" مع النظام من جهة أخرى، أخذ التظاهر السلمي ينزلق تدريجياً نحو العنف عبر شعار "ما دون الرصاص فهو سلمية"، وهو شعار يستبطن العنف، ويوفر له غطاءً شرعياً، ثم تطوّر الأمر إلى ما هو أخطر بكثير، عندما ظهر في الفضاء الإخواني مصطلح "المنهج الثوري" بين مؤيّد ومعارِض داخل الصف الإخواني في سياق صراع داخلي، تعيشه الجماعة، وتكمن المأساة في عدم إدراك القيادات الإخوانية أن مثل هذه الخطوات تمنح النظام ذريعة مثالية للبطش الأمني، فضلاً عن أثرها الكارثي على قواعدها التي قد تجنح نحو تيارات الغلوّ والتطرّف.
تصرّ الجماعة على التخندق داخل أضابير التنظيم، والعيش في دياجير خطاب ثنائيات مغلقة، ما يجعلها لا ترى إلا بـ "عين التنظيم"، وألا تقيّم الأمور إلا بميزان "مصلحة التنظيم"، وهو ما يدفعها دوماً للوقوف في الموقع الخطأ.
عملية النقد الذاتي والمراجعات الفكرية والحركية سمة أساسية من سمات التيارات السياسية، ودليل على الانفتاح والحيوية، كما أنها ضرورة أساسية من أجل تصحيح المسار، وأخذ الدروس والاعتبار مما وقع من أخطاء. أمّا الاستعلاء والشعور الزائد بـ "تضخّم الذات"، والاغترار بالأعداد والقدرة على التنظيم والحشد، والإغراق في سردية "المحنة والابتلاء"، كلها تقود إلى الجمود الذي يؤدي إلى إعادة إنتاج الأخطاء نفسها، ما يطيل زمن العلّة ولا يداويها.
وأشاع ظهور غنيم حالة من الجدل، وصلت إلى التراشق وتبادل الاتهامات، بين القوى الشبابية لثورة 25 يناير وجماعة الإخوان المسلمين، حيث شهدت مواقع التواصل الاجتماعي سجالاً ساخناً بين الطرفيْن، بلغ حدّ التخوين المُتبادل.
يرى "الإخوان" أنهم العمود الفقري لثورة 25 يناير، والكتلة الشعبية الصلبة التي لولاها ما نجحت الثورة في خلع حسني مبارك، كما يرون أنهم الطرف الذي دفع ثمناً باهظاً في مواجهة القمع ومازال حتى اللحظة. وعليه، لا يحقّ لأي طرف أيّد خلع محمد مرسي، وخذل الجماعة في معركة "الشرعية" أن يوجّه سهام النقد لها، وإنّما عليه أن يعتذر اعتذاراً حارّاً عن "خطيئة"معارضة مرسي، والخروج في "30 يونيو"، وربما قال بعضهم إن على القوى الشبابية أن تجتمع في رهط غفير، وتقف في صعيد واحد، لتتقدم بأسمى عبارات "الندم والتوبة" على ما اقترفته في حق الجماعة طالبة العفو والصفح.
وترى القوى الشبابية أن الجماعة تخلّت مبكّراً عن الثورة، عندما كانت أول من غادر الميدان، تاركة رفاق الثورة، ولهثت وراء السلطة، وسعت إلى الاستئثار بحصد الثمار وحدها، من دون بقية شركائها، إلى جانب نكثها وعوداً قطعتها على نفسها، عندما تعهّد مرسي بتعهدات ظلّت كلاماً لم يخرج إلى حيّز التنفيذ.
وتقتضي الموضوعية القول إن المساواة بين الطرفين أمرٌ يجافي الإنصاف، إذ تقول طبائع الأمور إن الشباب، بحكم السنّ والخبرة، قد يقع في أخطاء ناتجة عن سوء التقدير. ولكن، كيف الحال بفصيل سياسي كبير عمره جاوز الثمانين عاماً أن يرتكب الأخطاء نفسها، مرّة تلو أخرى، ولا يعتبر منها؟ كما أن من وصل إلى سدّة السلطة، وفاز بمنصب رئاسة الدولة، وظلّ فيها عاماً كاملاً (سبقه الفوز بالأغلبية البرلمانية ورئاسة السلطة التشريعية) بالطبع ليس كمن لم يحصل على شيء من السلطة، ولم يُمكّن منها. فبعد نجاحها في إطاحة حسني مبارك، كشفت الثورة موازين القوى عن وجود كتلتيْن تنظيميتيْن كبيرتيْن، هما الجيش وجماعة الإخوان المسلمين، وكان من المفترض أن تكون الجماعة "قاطرة" القوى الثورية، وليس "القاطرة" و"القطار" معاً كما حدث لاحقاً، إلا كتلتها الكبيرة وتنظيمها الضخم المتشعّب، مقارنة بتشرذم القوى الأخرى، منحها شعوراً بالغطرسة، وصل إلى حد "النرجسية"، لاسيّما بعد نتيجة استفتاء 19 مارس/آذار 2012 الشهير على التعديلات الدستورية.
وما يستحق التوّقف والدهشة معاً أن الجماعة كررّت الأخطاء نفسها التي ارتكبتها بعد فوزها بالأغلبية البرلمانية، عقب فوز محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية، حيث تجاهلت الجماعة القوى الثورية، لا سيّما الشبابية منها، بل وحتى القوى الإسلامية المتحالفة معها، وسعت، بشكل حثيث، إلى الاستحواذ والاستئثار، كما أنها فشلت في استيعاب معارضيها، عندما أدارت قيادات الجماعة الأزمة معهم على أنها مباراة "صفرية"، استخدمت فيها الحشد والتعبئة أداة وحيدة في مواجهة خصومها، ما زاد من تأزّم الأزمة، وأصرّت الجماعة على أن:
إمّا أن تربح كل شيء، أو تخسر كل شيء، فرفضت تقديم أي تنازل حتى النهاية، ويُمكن، هنا، أن نعقد مقارنة بين موقف الجماعة في مصر وموقف حركة النهضة في تونس، حتى يتضّح الفارق بين الجمود والمرونة.
ارتكبت الجماعة أخطاء سياسية واستراتيجية فادحة، كان لها أكبر الأثر في التعجيل بخروجها من سدّة السلطة، حيث بدا واضحاً افتقادها رؤية مكتملة قادرة على التعامل مع المشكلات الكبيرة والمعقّدة التي تعاني منها مصر، وظلّ خطابها أسيراً للشعارات الهوياتية والعبارات الإنشائية التي تهدف إلى الحشد العاطفي، وتجييش المشاعر الدينية، كما ظهر جلياً أن مشروع الجماعة هو مشروع "معارضة" بالأساس، وليس مشروع "سلطة"، حيث غلبت النزعة المُعارِضة على خطابها وسلوكها، كما كانت تفعل إبّان عهد مبارك، عندما كانت في مقعد المعارضة، وكأنّ جسدها في السلطة وروحها في المعارضة. كما أنها فشلت في التحررّ من ضيق عقلية التنظيم المُغلَق، والخروج إلى سعة الوطن بتعددّ أطيافه السياسية ومكوناته الاجتماعية، فأدارت الوطن على اتساعه بقواعد إدارة التنظيم نفسها على ضيقه، ولم تعرف الحد الفاصل بين الحالتيْن.
وحتى بعد إطاحة مرسي، مدّت قيادات الجماعة خطّ الحلّ "الصفري" على استقامته، ورفعت شعار "لا بديل عن عودة مرسي وإسقاط الانقلاب" عبر التظاهر ثمّ التظاهر، وهو خيار يستهدف، أساساً، الحفاظ على البناء التنظيمي للجماعة، والحؤول دون انفراط عقد التنظيم، أو وقوع انشقاق كبير في جسده، كما أن هذا الخيار يحمي تلك القيادات من المحاسبة الداخلية، وتحمّل مسئولية الأخطاء التي وقعت في الأعوام الماضية.
وعلى الرغم من التكلفة الباهظة التي دفعتها جماعة الإخوان المسلمين من دماء أبنائها وحريتهم، خصوصاً بعد المذبحة في فضّ اعتصامي ميداني رابعة العدوية والنهضة، إلا أنها لم تحاول أن تعطي لنفسها هدنة لالتقاط الأنفاس، مبررّة هذا بعدم قدرتها على السيطرة على حماس قواعدها الشبابية، إلا أنه وبسبب استمرار قمع السلطة من جهة، وإصرار القيادات على المواجهة "الصفرية" مع النظام من جهة أخرى، أخذ التظاهر السلمي ينزلق تدريجياً نحو العنف عبر شعار "ما دون الرصاص فهو سلمية"، وهو شعار يستبطن العنف، ويوفر له غطاءً شرعياً، ثم تطوّر الأمر إلى ما هو أخطر بكثير، عندما ظهر في الفضاء الإخواني مصطلح "المنهج الثوري" بين مؤيّد ومعارِض داخل الصف الإخواني في سياق صراع داخلي، تعيشه الجماعة، وتكمن المأساة في عدم إدراك القيادات الإخوانية أن مثل هذه الخطوات تمنح النظام ذريعة مثالية للبطش الأمني، فضلاً عن أثرها الكارثي على قواعدها التي قد تجنح نحو تيارات الغلوّ والتطرّف.
تصرّ الجماعة على التخندق داخل أضابير التنظيم، والعيش في دياجير خطاب ثنائيات مغلقة، ما يجعلها لا ترى إلا بـ "عين التنظيم"، وألا تقيّم الأمور إلا بميزان "مصلحة التنظيم"، وهو ما يدفعها دوماً للوقوف في الموقع الخطأ.
عملية النقد الذاتي والمراجعات الفكرية والحركية سمة أساسية من سمات التيارات السياسية، ودليل على الانفتاح والحيوية، كما أنها ضرورة أساسية من أجل تصحيح المسار، وأخذ الدروس والاعتبار مما وقع من أخطاء. أمّا الاستعلاء والشعور الزائد بـ "تضخّم الذات"، والاغترار بالأعداد والقدرة على التنظيم والحشد، والإغراق في سردية "المحنة والابتلاء"، كلها تقود إلى الجمود الذي يؤدي إلى إعادة إنتاج الأخطاء نفسها، ما يطيل زمن العلّة ولا يداويها.