عند مارتن سكورسيزي، لا ترفع الحكاية لوحدها ـ مهما يكن مستواها ـ قيمة الفيلم، فالقيمة الحقيقية متأتية من قدرته على إعادة صوغها سينمائيا، جاعلا منها نصا بصريا كبيرا. يتكرّر هذا في "الأيرلندي" (2019)، المقتبسة قصّته من رواية لتشارلز براندت، بعنوان "سمعتُ أنّك تصبغ البيوت" (2004)، عن حياة الزعيم النقابي الفاسد جيمي هوفا (آل باتشينو) واختفائه في ظروف غامضة. حقيقة موته يعرفها العالم للمرّة الأولى مع اعتراف رجل العصابات فرانك "الأيرلندي" شيران (روربرت دي نيرو) بأنّه هو من صفّاه وأخفى جثّته.
اعتمادا على يوميات شيران، يعود سكورسيزي في "الأيرلندي" (إنتاج "نتفليكس") ـ الذي افتتح الدورة الـ41 (20 ـ 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي الدولي" ـ إلى عالم المافيات الأميركية. لكنها عودة لا تشبه سابقاتها، إلا بمقدار شدّة ارتباط مسار حياة أبطالها بالمكان والتاريخ الأميركيين، وبتشخيص قوّة الأواصر الرابطة بين الجهتين، حيث يكمن جزء كبير من أهمية اشتغال سكورسيزي.
هنا، تتجلّى قدرة المخرج على الربط بين الفرد والظرف الناشئ فيه، والمكان المُتشكّل لاحقا بفعل الأول. رؤيته تاريخ أميركا وتكوين مؤسّساتها السياسية يظهر جليا في "عصابات نيويورك" (2002)، عبر هذا التشابك الشديد. صراعات قادة عصابات المدينة توصلهم إلى مراكز القرار السياسي، قبل أن يُصبحوا لاحقا من قادة مؤسّساتها التشريعية. يُصَوّر الفيلم وحشية صراع المهاجرين، الأيرلنديين خاصة، للسيطرة على شوارع نيويورك، وكيف تصنع منهم المدينة، حديثة التكوين، زعماء في واشنطن.
في "الأيرلندي"، يُكمل سكورسيزي رؤيته تاريخ تشكيل الدولة الأميركية، عبر مجاز نقابات العمال، بتتبعه آليات تسرّب الفساد إلى زعاماتها، وخرق العصابات صفوفها، ليضحي تاريخ تكوينها البشع مشابها لتاريخ بقية المؤسّسات والأجهزة القضائية والسياسية.
مخرج كبير مثله لا يُعلن رؤيته السياسية، وقراءته تاريخ الولايات المتحدة الأميركية وتكوينها، إلا عبر "أفراد" منها، يحكون عبر ذواتهم فصولا من حياتهم المتشابكة مع تاريخ عام. لتأدية شخصية فرانك شيران، ببعديها النفسيّ والجسمانيّ، يُعطي لروبرت دي نيرو فرصة نادرة، يعيد بها مجده الغائب منذ نحو عقدين. رهان كبير على قدرته في تتبّع انقلاباته الحياتية، ومصيره المؤلم ككائن، وضعته الظروف في المكان الخطأ، وأجبرته على أن يأتي دائما إليه بعد فوات الأوان، وفقدانه فرص التراجع عنها.
تبعد كتابة الشخصية، والعناية بتشريح تكوينها النفسي ـ الاجتماعي، أيّ احتمال لإعادة تكرار ما قاله سابقا عن عالم المافيا. يصعب وصف رهانه على دي نيرو وباتشينو وجو بيشي بالمغامرة. فهو يعرف كيف يُظهر مكامن الموهبة فيهم، رغم بلوغهم مرحلة عمرية أضعفت أعوامها الطوال مرونتهم الجسمانية وقوة تعبير وجوههم. ومع ذلك، كان أداؤهم رائعا، متوافقا مع التنقّلات "الزمانية" المتباعدة، والانفعالات الحادّة للشخصيات التي يمثّلون.
إمساكه بخيوط التصعيد والتوتر، هو الخبير بها، يفتح مسارا واسعا لسرد حياة رجل عصابات، ينتقل من مهمة سائق شاحنة بسيط إلى قاتل مأجور، لم يرتقِ إلى مركز قيادي، رغم أعمال يقوم بها تُرضي مسؤوليه، الذين يجدون فيه استعدادا للقتل وتنفيذ الأوامر، لكنّهم "يُشخّصون" فيه ضعف موهبة الزعامة.
أما طاعته لهم فمتأتية من تجربته كجندي في الجيش الأميركي، أثناء الحرب العالمية الثانية. لـ"شجاعته" حينها، يُمنح أوسمة، وعلى أساسها، تُرشّحه العائلات المافياوية في ولاية فيلادليفيا، لتولي مراكز قيادية في نقابات عمالية. حينها، يلتقي الزعيم النقابي المتعاون مع المافيات جيمي هوفا، وتتطوّر العلاقة بينهما إلى صداقة. تاريخه الشخصي ينقله السيناريست المشهور ستيفن زاليان في 3 مراحل، كان على دي نيرو التوافق معها تمثيلا، فيتجاوز التحدّي بامتياز. كلّ مرحلة عمرية من حياته، يستجيب صنّاعُ الماكياج والديكور، بتنوّعاتهما وتفاصيلهما المتوافقة مع مراحل تمتد على أكثر من 5 عقود، لمتطلباتها، ويوفّق هو في تجسيدها.
بمساعدة تصوير رائع (رودريغو بريتو) وتوليف مذهل (تيلما شونميكر)، يُعالج السيناريو جوانب غير تقليدية في حياة رجل العصابات. هذا يُميّز "الأيرلندي" عن أفلام مافياوية أخرى لمارتن سكورسيزي. كاتب النص السينمائي الباهر لا يُحاكم شخصياته، بل يتركها تراجع نفسها بنفسها، فالحياة وما تصنعه بالبشر لا أحد له حقّ في الحكم المطلق عليها. هجران ابنة فرانك له يعذّب روحه، ويشعره بمرارة ما تبقى له من أيام، بوصفها شاهدا على جرائمه الكثيرة، فتُطلق حكمها، ويُمسي بالنسبة إليها رجلا ميتا. في موقفها منه، تنطلق من رؤيتها بعينيها عنفه وقسوته. لم تولِ اهتماما إلى قرارات المحاكم، التي يخرج منها بريئا في كلّ مرة. قسوته تبعده عنها، ودوافعه الداخلية الصادقة تبرّر طلبه بمصالحتها.
على فكرة "الحماية"، يشتغل سكورسيزي، مُجسّدا إياها في سلوك فرانك. القاتل المأجور مقتنع بأن دوافع الجرائم التي يرتكبها كامنةٌ في حماية أسرته من عالم لا يرحم الضعف، ما يجعله يطلب القوة اللازمة لحمايتها من المافيات. عائلته تجد في سلوكه ما يزيد خوفها ونفورها منه.
التكوين المُعقّد والملتبس لفرانك يُثير الخوف. هو رجل عنيف، يشرع بفعل، ثم يندم عليه، من دون أن يتراجع عن تنفيذه. قرار رئيس العصابة الإيطالية راسل بوفاليتو (جو بيشي) بقتل صديقه النقابي يعذّب ضميره، فيأخذ شعوره بالإثم معه إلى القبر.
يتوقّف مارتن سكورسيزي عند فكرة الموت والرضى به بضمير معذّب. لا يغلق موت بطله المنتظر مشهدا فردانيا تراجيديا، بل يفتح كوة في جدار الحياة لتأمّل الوجود والبشر، بنظرة ذاتية منفتحة على فهم الكائن البشري بتعقيداته. أما على مستوى التمثيل، فيمكن القول إن سكورسيزي يُقدّم لدي نيرو وباتشينو عرضا مغريا للحصول على تقاعد سينمائي مُشرّف.