منذ سنوات قليلة فقط، تحديداً في 2012، نُقل إلى العربية كتاب "الكينونة والزمان" (منشورات "الكتاب الجديد") بترجمة فتحي المسكيني. الكتاب الذي يعتبر أهم أعمال مارتن هايدغر (1889 - 1976) يبدو أن توفُّره بلسان الضاد قد غيّر من إحداثيات حضور الفيلسوف الألماني عربياً.
لعل هذا ما نلمسه بوضوح مع ظهور ترجمة عربية لعمل آخر له بعنوان "الأنطولوجيا، هرمينوطيقا الواقعانية" (2015، "منشورات الجمل") أنجزها الباحث الجزائري عمارة الناصر، والذي يفتتح مقدّمته بالقول "لا تبدأ فلسفة هايدغر بكتابه "الكينونة والزمان"، فنصوصه السابقة عليه حافلة بالتصوّرات الفلسفية عن جهويّات التحليل الأنطولوجي لـ الدَزاين" (المفهوم الرئيسي في فكره، يمكن ترجمتها بـ الكينونة هنا/الآن).
فإذا كان العمل الذي ترجمه المسكيني قد ظهر أول مرة بلغته الأصلية سنة 1927، فإن الناصر يعود بنا إلى 1923 باعتبار أن الكتاب الذي ترجمه هو في الأصل محاضرة ألقاها الفيلسوف الألماني في تلك السنة.
هكذا نفهم أن حالة من الجدل تتأسّس حول هايدغر، يصدّقها أيضاً ظهور كتاب "هايدغر والفكر العربي" لـ مشير عون (عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات") مؤخراً، وأن حالة الجدل هذه باتت تجد مرجعيات في ذهنية القارئ العربي، على عكس مرحلة سابقة كانت أعماله المنقولة إلى العربية مثل "مبدأ العلة" أو "أصل العمل الفني" أو "التقنية - الحقيقة - الوجود" تبدو مثل شذارات لا تشير إلى تراكم يليق بفيلسوف من حجمه.
يصدّر الناصر ترجمته بعبارة المفكر الفرنسي إمانويل ليفيناس "إن التفلسف دون معرفة بهايدغر يتضمّن جانباً من السذاجة". ولعل في ذلك دعوة/ تنبيه إلى ضرورة تجاوز عقبة الاصطلاحات الهايدغارية التي كثيراً ما اصطدم بها قرّاؤه فظلّوا على حوافّ الدخول إلى متاهات فكره.
مع هايدغر، ينبغي ترك التعريفات المتداولة جانباً، أو بعبارة أدق؛ استعمالها فقط كخلفيات، فهو يقدّم تعريفاته الخاصة للأدوات والمواضيع من أجل إمكانية إعادة طرح الأسئلة الفلسفية الكبرى، فالهرمينوطيقا ليست التأويل كما هو معروف، بل إنها معه "طريقة تهدف إلى ترك الحياة تبيّن نفسها بنفسها دون رؤية نظرية مسبّقة"، فهي إذن كما يلاحظ الناصر "هرمينوطيقا مطعّمة بالفينومينولوجيا"، وكذلك سيفعل مع مصطلح الأنطولوجيا.
أما الواقعانية (مصطلح هايدغاري آخر) فهي "من تحدّد الكينونة التي نكونها نحن أنفسنا كما هي في كل مرة" أي في الحياة اليومية، والتي من خلال ارتباطها باللحظة الحاضرة تتملّص من القبض النظري.
ينفتح الكتاب على سؤال مهم من المترجم "هل يحضر هايدغر بكليّته في العربية؟"، علماً أنه اعتمد في تعريب الكتاب على ترجمة فرنسية، كما تبدو جلية في العمل تأثيرات القراءات الفرنسية للفيسلوف الألماني. اعتبر الناصر أن "ترجمة نصوص هايدغر ليست مجرّد نقلها من لغة إلى أخرى بإيجاد المرادفات والدلالات الملائمة والتصوّرات التي تتكيّف مع الجهويات القصدية لتلك النصوص، بل تتعدّى ذلك إلى مهمة أكثر كثافة هي إضفاء الراهنية على تلك الترجمة".
لعل الكثير مما في كتاب هايدغر سيُفلت من القارئ العربي، ولكنه سيلتقي حتماً بإشكاليات الفيلسوف الألماني والتي قد تثير فضوله لـ "اختراق المحتجب في الألفة واللامبالاة" ورتابة الحياة "الواقعانية" التي تغلّف "الدَزاين"، وذلك هو مطمح فلسفته، أكثر من تداول مفاهيمه ومصطلحاته.