لا يقدّم الناقد والمنظّر البريطاني تيري إيغلتون (1943) في كتابه "أوهام ما بعد الحداثة" ما هو أكثر من "انطباعات نقدية" تعدمها النسقية، وتتوسل السخرية والأحكام العامة التي لا تخلو أحياناً من سطحية في نقده لسردية ما بعد الحداثة، ومع ذلك فإنها تستحق أن نقف عندها، لجرأة طرحها وموقفها الرافض لموضة ما بعد الحداثة، خاصة في شقها الراديكالي، إذ يرى خطاب ما بعد الحداثة نتيجة لإخفاق سياسي، فهو بالنسبة إليه مجرد "بديل فنتازي لورطة سياسية فعلية"، وسيوجه نقده في هذا الكتاب الصادر مؤخراً في طبعة جديدة ضمن سلسلة "ترجمان" في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" بترجمة ثائر ديب، إلى التصوّرات ما بعد الحداثية عن فكرة الكلّية والتقدم في التاريخ والذات، والكونية.
إن الرفض الراديكالي لفكرة الكلّية من طرف الفكر الحداثي، لا يزيد عن كونه ملجأ في مرحلة غاب فيها السياسي والسياسة؛ "مرحلة تبدو فيها السياسة الجزئية أو المحدودة هي الحالة السائدة"، ومرحلة ينظر فيها للكلّية الاجتماعية كـ"ضرب من الوهم أو الحلم الذي لا سبيل إلى تحقيقه". إن هذا الهوس بالجزئي وهذا الرفض للكلّي الذي يسكن المفكرين الراديكاليين، هو بالنسبة لإيغلتون مسألة استراتيجية أكثر منها مسألة نظرية، إنها تحجب عنّا الرأسمالية وتناقضاتها برأي الناقد البريطاني، الذي ينظر للشك بالكلّيات باعتباره أمراً زائفاً يعتريه الكثير من التناقض، فما بعد الحداثة تتحمّس لنقد كلّيات كالسجون والنظام الأبوي، والأنظمة السياسية المطلقة، لكنها في نوع من التواطؤ تصمت عن كلّيات أخرى كأساليب الإنتاج، والتشكيلات الاجتماعية، والمنظومات العقائدية.
إن هذه الراديكالية التي تطبع الثقافة ما بعد حداثية، وغياب الإحساس بالفاعلية السياسية، يجعلها مغتربة عن أسئلة الواقع، لكن وحدها الممارسة برأي إيغلتون تمكننا من مواجهة العالم، هو الذي سينتقد اليسار الثقافي الذي عوّض نقد الرأسمالية بنقد تمظهراتها السطحية فقط، تحت ذريعة الحق في الاختلاف. وبذلك تحرمنا فلسفات ما بعد الحداثة من حقنا في الطوباوية، ولا تفكر خارج الخطاطة الرأسمالية، فهي لا تفهم "آخر النظام" إلا داخل النظام نفسه، وتغلق بذلك أبواب التاريخ معلنة نهايته.
من حق إيغلتون أن يتساءل عن "الشروط التاريخية التي تقف وراء إعلان نهاية التاريخ وإذاعتها؟ هل وصل التاريخ، بمعنى الحداثة، إلى نهايته لأننا حللنا إشكالياته وظفرنا بذلك، أم لأن الإشكاليات تكشفت لنا (لمن؟) عن أنها إشكاليات زائفة، أم لأننا تخلينا أخيراً عن المهمة؟ لو لم يكن للتاريخ دينامية داخلية، أما كان متوقفاً أصلاً؟ هل انتهى التاريخ كلّه، أم أجزاء معينة منه فحسب؟ انعتاق الشعوب المضطهدة وهيمنة الطبيعة؟ وإذا ما كانت الأسس والأصول قد انتهت الآن، فلماذا نجد من حولنا كل هذا القدر من الأصولية؟".
ولكن هذه التيارات الما بعد حداثية الراديكالية تتناسى أن ما يبطل هذه السرديات الكبرى، ليس القول بموتها، وإنما تحولات مادية في بنية الرأسمالية، وهي بهذا منعت نفسها من الدخول في أي صراع مع الرأسمالية، ولم تكن بالمرّة مزعجة لها.
يبرز تيري إيغلتون أننا، مع الفكر ما بعد حداثي، تحوّلنا من صنمية البضاعة إلى صنمية الجسد، فاستبدلت الذات هويتها الاجتماعية بهوية لحمية، وتحوّل الاهتمام بالسياسة إلى الاهتمام بالسياسة الحيوية، والاهتمام بالإنتاج وتناقضاته إلى الاهتمام بالانحراف، وعوض التشاؤم الطوباوية.
إن الذات في التصوّر ما بعد حداثي متشظية وعائمة و"طافية بحرية غريبة" وهذا "نوع من الحرية السلبية الخاصة بالذات الليبرالية"، فهي ذات تتوافق مع تجربة المجتمعات الرأسمالية المتقدمة. فإذا كانت الذات "الإنسانوية الليبرالية" القديمة حقّقت بعض المنجزات، وكانت قادرة على تغيير العالم، وإن سقطت في العنف، فإن هذه الذات المفككة التي جاءت في أعقابها ما زال عليها أن تبيّن كيف أن "غير المتطابق مع ذاته" قادر على التغيير بنفس قدرته على الهدم. وبالمقابل يدافع إيغلتون عن اشتراكية ديمقراطية تمكننا من تجاوز هذا التناقض، هي التي تجمع بين الهوية واللاتمركز، فهي تشمل تقرير المصير ولا مركزية الذات في الوقت نفسه.
تنطلق ما بعد الحداثة من تصوّر يقول بأن القيم لم تعد كونية بل محلية، عارضة وليست مطلقة، متناسية عبر ذلك "أن طبيعتنا المشتركة هي التي كان لها الفضل في أن تكون لنا مطالب أخلاقية وسياسية بعضنا تجاه بعض، وليس أي سبب محلي ضيق أو أبوي أو ثقافي محض"، فالقيم الأخلاقية السياسية يجب أن تكون غير متحيزة أو مختلفة، وهذا القول ما بعد حداثي بأن القيم الأخلاقية لا تتجسّد إلا في تقاليد محلية محددة، يعتريه الكثير من التناقض، وخشية ما بعد الحداثيين من كونية تتمركز على "الذكور الغربيين البيض" وتقصي كل اختلاف ثقافي، لا تبرر القول باللاكونية، لأن الكونية والاختلاف ليسا متعارضين، وإن كنّا نشهد أشكالا من كونية زائفة، فهذا لا يعني أن نواجهها باسم خصوصية ثقافية لا تعدو أن تكون سوى وجه آخر لهذه الكونية الزائفة، أو مجرد مطية للاستبداد.
إننا مطالبون بتحقيق كونية عادلة، تسمح بتفكيك التضاد بين العقل الكوني والخصوصيات الثقافية، وبالتالي "ليست الكونية مجرد وهم أيديولوجي، بل هي، على العكس، السمة الملموسة لعالمنا السياسي أكثر من أي سمة أخرى. إنها ليست مجرد فكرة يمكن للمرء أن يختارها أو يقف ضدها كيفما يأخذه الهوى النظري، وإنما هي بنية الواقع العالمي ذاته"، إن الكونية تعني في النهاية أننا "نقطن الكوكب الصغير ذاته".
لا يعدنا فكر ما بعد الحداثة بمستقبل يختلف كثيراً عن الحاضر الذي نعيشه، لأنه لا يطرح أسئلة المجتمع، متناسياً بأن التحديات الذي نقف أمامها اليوم، وبالنظر لكل التطورات التي نعيشها، هي من طبيعة مادية، لهذا لن يرى إيغلتون في ما بعد الحداثة سوى جزء من المشكل الذي يعيشه العالم اليوم وليس جزءاً أو طريقاً إلى الحل.