"أبو راسين"

09 ديسمبر 2014
خرجت أمه به بقبعة تغطي رأسه (فرانس برس)
+ الخط -

يكره الأماكن المغلقة، مهما كانت واسعة. ويستعيد لا شعورياً ذلك الحبس في غرفته. فقد أمضى داخلها تسع سنوات كاملة، يتآلف مع رائحتها العفنة.

لم تكن الأمور كذلك دائماً، فسحنة الخوف والحذر والخجل تلك، اكتسبها اكتساباً بعد عشرين عاماً من تكوّنه. أو ربّما استعاد فيها ما فطر عليه من خباء لجأت إليه والدته وهي تنتظر طويلاً، حملاً لم يأت. وحين أتى، حرصت على إيفاء نذور عديدة كانت قد نذرتها. وتابعت من بعدها استكمال نذورها كي تكون خلقته كاملة. ولم تنتبه إلى جرعة زائدة منها كادت تجعل منه أكثر عزلة طوال حياته.

فيوم ولادته كان من تلك الأيام التي رائحة الصيف فيها، في شباط الحرب الأهلية اللبنانية، المستنفرة على عدة حواجز ميليشياوية من البيت إلى المستشفى. وتمت الولادة، وخرجت أمه به بقبعة تغطي رأسه. لا خوفاً من شمس أو هواء، بل من نظرة سخرية أو شماتة أو حتى شفقة. فقد ولد برأسين، قبل أن يختفي الرأس الآخر بعد سنتين.

هللت أمه فرحة وتابعت إيفاء نذورها، من دون أن تعلم أيّ رأس كان الأصلي، ما اختفى أم ما بقي. ولا حتى اهتمت بذلك فقد عانت ما عانته، وتحملت ما تحملته طيلة تلك الأيام الكئيبة، حتّى بات عادياً كأقرانه... والعاديّ هو ما يؤنس لرؤيته، والتعامل معه دون فواتير إضافية.

حاولت في البداية وبعد خوف دام أسابيع، أن تواجه الأمر حين اعتبرته واقعاً قائماً لا مجال لتغييره. فكشفت طفلها أمام الجميع، لكنّ والدتها واجهتها مباشرة بالقول، وهي تبدي موقفاً ما بين الحسرة والنفور: "ابنك براسين". وخالته الشابة غنجته بعد اعتياد سريع: "يا أبو راسين". والدكانجي سأل والدته وهو يغمز بفراغ: "شو كيفو أبو راسين؟". وأمّ مجهولة قالت لطفلها الباكي وكأنّها تخاف عليه من أن يضيّع مشهد العمر: "شوف يا ماما بايبي براسين".

حصار تام لفّ والدته من كلّ الجوانب. وحسناً كان أنّ تلك السنوات لم تشهد ما نشهده اليوم من انفجار مرئي وإلكتروني، وإلا لكانت صورة الطفل "أبو راسين" تضاهي الموناليزا أو تكاد.

ذلك الخوف والحذر ترافق مع صمت مطبق، لم يكن يغادره إلا ليسكب أطناناً من الكلام في فترة قياسية. يشبّه ذلك بما يكنّه لفتيات عديدات صادفهن وأحبّهن معاً وأبداً، ومع ذلك لم يحبّ واحدة منهن، ولم يكتشف ذلك في وقته.

المنطق المتلازم يرافق ذاكرته الملتاعة بفراق سماء هبطت من عليائها في أتون جحيم مخه، بأعصابه المتلفة. فالخلايا لا تكاد تنسيه خيبة إلا وتذكره بأخرى طال انتظاره لها. وكأنّه إدمان لكلّ ما لا يحبّ ولا يرغب فيه، وإن كان يرغب فيه بشدّة في لحظة ما.
المساهمون