الثورة والثوار وخيار الانتقام

15 فبراير 2016
يجب على الثوار أن يكونوا متقدمين أخلاقياً على خصومهم(فيسبوك)
+ الخط -
ساحة الثورة والثوار فى بلدان الربيع العربي أصبحت وللأسف تعج بالشخصيات الثائرة والجماعات المناضلة التي تؤمن وتعتقد بأن مقاومة الطائفية تستوجب خطاباً طائفياً مضاداً! فالبعض يتصور أن مقاومة الجماعات الشيعية المُتعصبة يتطلب إنشاء جماعات سنية أشد تعصباً مقاومة لها! وأن منازلة المستبدين المجرمين لن تنجح إلا من خلال تدمير وإفناء كل المكونات الاجتماعية المنحازة لغير خيار الثورة! وهذا يُعد سقوطاً أخلاقياً فادحاً للثوار؛ إذ يجب على الثوار أن يكونوا متقدمين أخلاقياً على خصومهم من خلال التبشير بمستقبل واعد للجميع لا يُظلم فيه أحد، ولا ينتقص من كرامته وحريته بسبب معتقده، أو فكره، أوعرقه أو طائفته وطبقته الاجتماعية؛ فالنماذج والتجارب العالمية فى ساحة النضال والاستقلال والبحث عن المساواة والحرية تؤكد لنا أن الثوار عندما يحافظون على تفوقهم الأخلاقي على خصومهم يكتب لهم النصر ولو بعد حين ولنا فى الخبرات التالية العبرة والمثل.


أولاً: حركة السود في الولايات المتحدة الأميركية
عانى السود (الأميركيون من أصل أفريقي) من ممارسات التفرقة العنصرية والجوع والعنف؛ فكان لا ينظر إليهم فقط كعبيد يفعلون ما يؤمرون، إنما كأداة تُستغل أجسادهم وأرواحهم لخدمة السيد الأبيض! ففي الستينيات كان يعيش أكثر من 20 مليون أفرو-أميركي في بيوت فقيرة قذرة مبنية من الصفيح والأخشاب في مدن الولايات المتحدة الشمالية؛ هربًا من ظلم التفرقة العنصرية في الجنوب، إضافةً إلى انتشار البطالة والجهل والأمراض في أوساطهم.

استمرت تلك الأوضاع إلى أن اختارت الأقدار مدينة مونتغمري (إحدى مدن الجنوب الأميركي) لتكون مسرحًا لأحداث خالدة قادها، القس مارتن لوثر كينغ؛ فقد استطاع عن طريق ترسيخ مفهوم المقاومة باللاعنف أن يجمع حوله أبناء جلدته، ويدفعهم إلى العمل الإيجابي؛ فلم ييأس ويستسلم مثلما فعل بعضهم، ولم ينسق وراء انفعالات الذين فقدوا أبناءهم ودماءهم، وظل رافعا لشعار المساواة للجميع فى أميركا؛ وعلى الرغم من أن منطلق "حركة السود"، كان فئويًا وينتصر لفئة محددة، ويسعى لرفع الظلم الواقع عليها، إلا أنها - أي الحركة - حصلت في بعض مراحلها على دعم قوي، وتأييد جماهيري ليس بالقليل من البيض أنفسهم! وذلك يرجع لأن الحركة تبنت خطاباً أخلاقيا إنسانياً نجح في جذب التعاطف والتأييد من المجتمع المحيط بها، ومن خلال "استراتيجية عدم الردِّ" على الاستفزازت بالعنف، وعدم الانخراط في أتون القتل والتدمير، مما مكنها في نهاية المطاف من تحقيق كامل أهدافها التي تحركت من أجلها، وأصبحنا الآن نسمع عن وزراء من السود وليس هذا فحسب بل وصل باراك أوباما في 20 يناير/ كانون الثاني 2009 لمنصب رئيس الولايات المتحدة الأميركية ليكون أول رئيس من أصول أفريقية يصل للبيت الأبيض.

ثانياً: تجربة مهاتير محمد
عمق الاحتلال الياباني للمالايو إبان الحرب العالمية الثانية الكراهية التاريخية المتبادلة بين المكونات العرقية للشعب الماليزي، حيث أدى تفضيل اليابانيين للمالايو على غيرهم في شغل المناصب العامة واستغلال الفرص الاقتصادية والتعليمية الى تكريس الفجوة بين المالايو والصينيين في البلاد؛ وكذالك فعل الاحتلال البريطاني عندما عبث بالتركيبة العرقية للشعب الماليزي عبر استقدام الأيدي العاملة من كل من الصين والهند وتفضيلهم اقتصاديا، ففي أواخر خمسينيات القرن العشرين كان شعب المالايو وغيره من مجموعات السكان الأصليين متخلفين كثيراً عن الأقلية الصينية في المجال الاقتصادي رغم أنهم يشكلون الأغلبية العددية، إذ يحوز المالايو (السكان الأصليين للبلاد) على 2.4% فقط من ثروة البلاد، وتحوز الأقلية الصينية علي ما يزيد من ثلث الثروة في ماليزيا، هذا هو الأمر الذي رفضه المالايو بشدة، وكان السبب الأساسي في حدوث الاضطرابات العرقية التى أخرت تقدم ماليزيا لعقود من الزمن وتسببت فى وقع حرب أهلية فى البلاد، وهنا يشرح لنا مهاتير محمد فلسفته فى مقاومة هذه التحديات التاريخية السابقة التى تعصف بالمجتمع الماليزي كله قائلاً: "نحن في ماليزيا بلد متعدد الأعراق والأديان والثقافات وقعنا في حرب أهلية ضربت بعمق أمن واستقرار المجتمع؛ فخلال هذه الاضطرابات والقلاقل لم نستطع أن نضع لبنة فوق أختها؛ فالتنمية في المجتمعات لا تتم إلا إذا حل الأمن والسلام، فكان لازمًا علينا الدخول في حوار مفتوح مع كل المكونات الوطنية دون استثناء لأحد، والاتفاق على تقديم تنازلات متبادلة من قبل الجميع لكى نتمكن من توطين الاستقرار والتنمية في البلد، وقد نجحنا في ذلك من خلال تبني خطة 2020 لبناء ماليزيا الجديدة، وتحركنا قدما في تحويل ماليزيا إلى بلد صناعي كبير قادر على المنافسة في السوق العالمية بفضل التعايش والتسامح".

تجربة الأفارقة النضالية فى الولايات المتحدة الأميركية وتجربة الزعيم مهاتير محمد في ماليزيا تخبرانا بأن التصدي للتهميش والفقر والعنصرية تتم بفلسفة تحقيق الانتصار الأخلاقي على الخصوم لا الانتقام منهم؛ فالانتصار يتحقق للثورة والثوار من خلال تبني رؤية وخطاب واستراتيجية أخلاقية متقدمة على الخصوم، ومنحازة للمستقبل تفتح للناس طاقات من الأمل والرخاء، وتُوقف نزيف الدماء، وتكفكف دموع الأرامل، وآهات أمهات الشهداء، وتقطع من الظلم وتُبشر بسيادة العدل بعيداً عن دعوات الكراهية والتحريض؛ فالنصر الحقيقي للحالمين بغد أفضل يتمثل فى شل قدرة الخصوم المعاندين والمستبدين العتاة والفاسدين عن العمل والتأثير فى المجتمع لا الدخول معهم فى معارك وجودية تُفني الوطن، وتُشعل الفتن، وتؤلم الناس.

(مصر)
المساهمون