ما أشد قسوة الحياة!

27 اغسطس 2015
ما أشد قسوة الحياة (Getty)
+ الخط -
دخلت عليه وهو يقرأ في كتاب شارد الذهن، جلست أمامه لبضع دقائق فلم يشعر بوجودي.. قلت قاطعا الصمت: ما أشد قسوة الحياة!.


فانتبه الشيخ لوجودي وخلع نظارته ملتفتا إلي بوجه مهتم.. فأكملت غير عابئ: سباق متسارع في مضمار غير متكافئ، ضعيف مقهور، وقوي باطش، هناك من يعمل ويكد ليل نهار عله يجد طريقا موصلا، والآخر تسعى إليه السبل كلها ليلجها، فيعطيها ظهره ويخلد للراحة.

ألا ترى جارنا الذي يكد ويتعب ليل نهار، ثم يعود لبيته وليس معه إلا ما لا يكاد يملأ بطون أهله! وبجانبه جاره الكسول الذي لا يكاد يعمل ساعة واحده حاصدا ما يفوق ضعف ما يجنيه جاره المسكين!

ورغم هذا لا يقدّر هذا الكسول تلك النعمة فلا يبذل ما يمكن أن يبلغه مكانة الأغنياء بغير مجهود أو وقت يذكر، هل يحمل المسكين ذنبا أنه لا يملك ذكاء جارة أو لم يولد لأب غني أو رجل ذي سلطة؟!

قال الشيخ بعد أن أنهيت كلامي وعدلت جلستي: وما الغاية يا بني من كل هذا؟
قلت: أن يحصد الإنسان المال.
قال الشيخ: ثم
قلت: البيت الوفير والزوجة الجميلة الحسيبة.
قال الشيخ: ثم
قلت: النجاح والسلطه وكل شيء.
قال الشيخ: ثم
قلت: وما ثم.
قال الشيخ: هل دخلت بيت جارنا المسكين الذي ذكرت؟
قلت: نعم.
قال الشيخ: فكيف كانوا؟
قلت: مساكين يظهر عليهم الفقر والحاجة.
قال الشيخ: هل وجدتهم سعداء؟
قلت: لا يوجد في الحي من هو أجمل منهم ابتسامة ولا أطيب منهم نفسا.
قال الشيخ: وماذا عن الآخر الذي ذكرت؟
قلت: دائم الشكوى لا يعجبه شيء.

قال الشيخ: يا بني.. كل يحصد بقدر ما يزرع.. والميزان لا يختل، إلا أننا نضل الميزان فنظن الأسباب غاية ثم نجعل منها معيارا ومقياسا، ثم نحكّم جوارحنا الناقصة لتفصل في الأمر رغم أنها لا ترى إلّا صورا غير مكتملة.

يا بني: عندما تشاهد ثورا هائجا يجري الناس من مخافته وترى عيني الثور يملأهما الغضب وقد هدم في طريقه كل شيء.. لا يملك قلبك إلا الشفقه على الناس الذين علت وجوههم علامات الذعر والخوف. أما إذا رأيت الأمر من مكان علٍ وبسط لك الزمان تقلب فيه كيف تشاء لرأيت وسمعت ضحكات هؤلاء الناس تملأ الغرفة المغلقة وهم يتعمدون استثارة الثور الهادئ حتى آل الأمر إلى ما رأيت.

ثم أمسك الشيخ بنظارته وقال: يا بني ليس عيبا أن يعترف الإنسان بأنه لا يستطيع القراءة بشكل جيد، لكن العيب أن يتهم الكتاب بأن أوراقه متسخة غير نظيفة، والحقيقة أنه هو الذي لم يمسح ما على نظارته من تراب حال بينه وبين القراءة والرؤية كما ينبغي.

(مصر)
دلالات
المساهمون