عند أعتاب رابعة والثورة [1ـ 2]

14 اغسطس 2015
ميدان النهضة (فرانس برس)
+ الخط -
كان الأصدقاء منذ الأيام الأولى من يوليو/ حزيران 2013م حتى 13 من أغسطس/ آب من نفس العام يتحلقون للذهاب إلى ميدان النهضة، أتوا إلى رابعة عدة أيام في البداية.. ثم تحولوا عنها، ولكني وجدتُ صراعاً داخلياً ممهوراً بتوقيع.. لحظة تاريخية حرجة.. لكنه يثور بداخلي، أخبرتُ به أقرب الأصدقاء فأمّن على كلماتي ثم قال:
ـ ولكننا لا نملك إلا اقتفاء خطى الشرفاء!


ميدان النهضة كان يمثل بالنسبة إلي اعتصاماً فرض نفسه على شارع، بمعنى أن الشارع الذي تقع "جامعة القاهرة" فيه تم فرض اعتصام النهضة عليه، من وجهة نظر نسمها أدبية أو مقاربة لعين الطائر، هذا مع احترامي وتقديري لدماء سالت هناك.. وأرواح راحت تشتكي إلى الخالق غدر قائد الانقلاب بكل حلم جميل في الاحتفاظ بالمسار الديمقراطي في مصر، وعدم كون الشرفاء على المستوى المطلوب أيضاً، لا من حدث الانقلاب برأيي.. بل من حدث التعامل مع ما جرى في مصر في الفترة من 25 من يناير/ كانون الثاني 2011م حتى اليوم.. وهو ما أتناوله في هذا المقال والتالي له..

الجميع راح يبحث عن مصلحة يمكن له أن يحققها وقد سلموا بأن ما حدث في 25 يناير "ثورة".. ولم يفطن أكثرهم بصيرة إلى خدعة انطلتْ على الركب كله من آسف شديد، وما كاتب هذه الكلمات بمُبرأ من المسؤولية وإن حامت في النفس شكوك كانت الكلمات تعبر عنها حيناً، أما أكثر الشرفاء محاولة للتجرد من المصلحة فقد أخطأ بالتوهم ظاناً أن اللحظة التاريخية قد واتته لحكم مصر، هكذا "دفعة واحدة".. من دون أن يكون قد أعد للأمر عدته، لا بحسب علم.. ولا خطط.. ولا حتى أعد دراسة واحدة تقول بكيفية حكم هذا الشعب.. بل إنه لم يكن من آليات هؤلاء وأقصد الإخوان المسلمين تحديداً، مع الاحترام لكل الشرفاء، لم يكن من آلياتهم الوصول إلى الحكم عبر ثورة، وهكذا انطلى الأمر على الجميع.. ودخلتْ خدعة الجيش نفوسنا وبيوتنا جميعاً..

والقراءة المتأنية لما حدث وللأحداث تعيد تكوين "البازلت" على النحو التالي.. وتقول بأمر واحد: عرف الجيش، بمخابراته وأساليبه، أن انتفاضة محدودة في الطريق إلى الشعب المصري نتيجة ستين عاماً من حكمه، ومن تراكم المظالم من عبد الناصر للسادات وصولاً إلى مبارك، ولما كان الأفق مسدوداً بانتظار وصول جمال مبارك إلى الحكم بمباركة أبيه.. فإن تضافراً تم للمرة الأولى بين غرض الجيش والانتفاضة أو الحركة المحدودة شعبياً المرتقبة.. لعلها المرة الأولى في العصر الحديث النادرة عموماً أن يجد الجيش نفسه في معسكر واحد يؤدي إلى غرض يريده.. بل يشتهيه مع الشعب المقهور على أمره على مدار تاريخه.. اللهم إلا من فترة الحكم الإسلامي الأولى، على الأقل، لما استطاع ابن المصري "القبطي" رفع الشكوى إلى عمر بن الخطاب، أمير المؤمنين رضي الله عنه، فاقتص له من ابن والي مصر عمرو بن العاص، رضي الله عنه..

اتفقت مصلحة الجيش مع الشعب في إقصاء جمال مبارك عن المشهد تماماً.. وعودة الجيش للحكم بعد ملله من شيخوخة مبارك الطويلة، وكان ما كان وتداعتْ الأحداث.. وسار الجيش في ما رآه لعبة، وإن سالتْ الدماء الزكية الطاهرة، ووصلت الأمور لمرحلة الرئيس المنتخب للمرة الأولى في تاريخ مصر، ورأى العسكر إفشاله بدلاً من إقصائه، وقد كان..

بقي أن جماعة الإخوان التي لم تحسن قراءة المشهد منذ البداية وصدقت "كذبة الثورة" على وضوحها.. نزلت بثقلها للمرة الأولى في تاريخها إلى معترك الرئاسة لتلاقي إحدى أصعب المحن التي لاقتها على مدار نيف وثمانين عاماً هو عمرها، إن لم تكن المحنة هذه المرة لن تبقي عليها، اللهم إلا أن تستفيد الجماعة من أخطائها.. والخطأ الأخير الأكثر مرارة، وإلا فكيف يجتمع مجلس شورى الجماعة ثلاث مرات لاتخاذ قرار واحد للمرة الاولى في تاريخه، من دون وجود مستجد يتطلب ذلك، اللهم إلا عدم رضى "طائفة" من الجماعة عن القرار الرافض للترشح للرئاسة في المرتين السابقتين حتى يأتي القرار على مرادهم، اللهم فك أسر الأسير منهم، وارحم الشهيد وعاف المصاب، وفي النهاية يأتي قرار حكم مصر.

ولكن الجماعة ارتضت السير خلف من خطف خط سيرها وتاريخها الطويل للأسف، وما القول إن مسؤولاً أميركياً رفيعاً، زار نظيره في الجماعة قبيل الانتخابات، وأكد له أن الولايات المتحدة لا تمانع في ترشيح واحد منها للرئاسة بل حكم مصر، تماماً كما فعلت السفيرة الأميركية في بغداد قبيل غزو الراحل صدام حسين للكويت، وارتضت الجماعة السير خلف طريق مجهول أضاع مجهوداتها لعشرات السنوات مع الشعب.. وسمحت لكبير المجلس العسكري آنذاك "المشير محمد حسين طنطاوي" باختبارها لما سئل:
ـ هل تركتَ الشعب ومصر للإخوان؟!
فأجاب على البداهة:
ـ بل تركتُ الإخوان للشعب ومصر!

تعود هذا الشعب، في أغلبه، أن يمد الإخوان يدهم بالخير إليه.. حتى صار الأمر حقاً مكتسباً له لا ينبغي أن يشكر أو يحمد عليه.. بل لربما، كما فاجأتنا الأحداث يراهم يُقتلون ويُبادون فلا يحرك ساكناً.. بل "يهجع" إلى ما اعتاد من خوف شديد وارتكان إلى الظالمين من جديد!

على أن الإخوان أنفسهم لم يفرقوا بين أمرين للأمانة، مع احترامي، بين دورهم التربوي الدعوي الاجتماعي.. وبين مشاركتهم السياسية.. بل لا أكون قاسياً، والعياذ بالله، إذا ما قلتُ إنهم ما كان لهم أن ينتظروا نظير ما قدموا للشعب على مدار تاريخ الجماعة، وهو كثير جداً بالفعل، ولكن ما قدمه الإخوان قدموه إلى الله تعالى في المقام الأول، ثم إنهم لم يدرسوا لا طبيعة ولا نفسية الشعب المصري ليعرفوا أنه إن أعطاهم صوته فلا يعني هذا أنه يعرف من الديمقراطية وتاريخها وأبعادها شيئاً..

كانت كل هذه الأفكار تثور عند أعتاب رابعة، إذ أذهب والقليل من الأصدقاء إلى هناك لألتقي اعتصاماً حقيقياً لا شارعاً تخفى في اعتصام كما في النهضة.. في رابعة كان الاعتصام يعيد تشكيل الشارع ليجعله أبهى من مدينة بل عاصمة.. ولم يكن الاعتصام يتخفّى خلف الشارع كما في النهضة..

وللحديث بقية.. ما دام في العمر بقية!

(مصر)
المساهمون