ألمانيا.. هل تنقرض الكتابة بخط اليد؟

26 ابريل 2015
الكتابة اليدوية ضحية الحاسوب والشبكة (المصدر)
+ الخط -
في عام 1806 كتب يوهانس فولفجانج جوته، أشهر أدباء ألمانيا، في رسالة لأحد أصدقائه يقول: "بدأت منذ فترة بجمع عبارات مكتوبة بخط اليد، وأرغب في أن أجمع وأمتلك ما يصل لي من كتابات المشاهير المعاصرين والأقدمين". 

كان الأديب المشهور يقدر قيمة الكتابة بخط اليد، ولا نحسبه يغير رأيه لو عايش كيف انتشر الحاسوب انتشارا واسع النطاق في عصرنا هذا، وهو ما يسري بطبيعة الحال على موطن جوته، ألمانيا، التي قررت منذ زمن تأمين وجود الحاسوب والشبكة العنكبوتية تحت تصرف التلامذة والأساتذة في صفوف جميع المدارس. وقد تحقق ذلك إلى حد بعيد، جنبا إلى جنب مع انتشار الحاسوب في المنازل، فضلا عن أجهزة عديدة أخرى متطورة تطورا يمكن الكبار والصغار من استخدامها، حتى تجاوز عدد الهواتف المحمولة المسجلة رسمياً أربعين مليوناً، أي ما يعادل نصف عدد السكان.

هنا لا نحتاج إلى دراسات مفصلة للقول إن هذا التطور الكبير لم يكن على حساب "إتقان اللغة" وانتشار ما بات يوصف باللهجات أو اللغات الافتراضية فحسب، بل كان أيضاً على حساب إتقان الكتابة باليد، فقد أصبحت لا تمثل سوى نزر يسير من الكتابة باستخدام الأزرار المجسمة وأزرار اللمس.

الكتابة والجيل القادم
لقد نشأ جيل كامل مع تطوير هذه الأجهزة منذ سبعينيات القرن الميلادي الماضي، ومن المؤكد أن النتائج ستتضاعف بالنسبة إلى الجيل القادم كما يشهد واقع التلامذة الآن، إذ أقدمت "رابطة المعلمين" في ألمانيا بالتعاون مع معهد متخصص بشؤون الكتابة، على إجراء دراسة استطلاعية تحت عنوان "هل تنقرض الكتابة بخط اليد؟" وكان من نتائجها أن أربعة أخماس المعلمين المشاركين في الاستطلاع أكدوا سوء مستوى الكتابة لدى التلامذة بشكل ملحوظ في السنوات القليلة الماضية.. ويشير إلى ذلك أن الكتابة بخط اليد ما تزال جيدة لدى تلامذة المرحلة الابتدائية كما يقول 58 % من المعلمين، ولكن تهبط هذه النسب إلى 22% بالنسبة إلى المراحل الدراسية التالية، كما لوحظ أن سوء الكتابة يشمل 51 % بالنسبة إلى الذكور مقابل 31% من الإناث، وهو ما يرتبط بأن الذكور أكثر استخداماً للأجهزة الإلكترونية الحديثة لا سيما عبر الألعاب والتطبيقات المختلفة.

والواقع أن ألمانيا، التي انحسر تعليم خط اليد في بعض مدارسها - كما في ولاية هامبورج - أصبحت بذلك على خطى دول أخرى مثل فنلندا والولايات المتحدة الأميركية، حيث صدرت قوانين تلغي إلزامية تعليم الكتابة اليدوية ابتداء من عام 2016وهذا ما يحذر منه الخبير مانفريد شبيتسر منذ 2012م في كتابه "هيمنة الرقمية".

وعند الخوض في الأسباب التفصيلية يتبين أن كثرة استخدام الأجهزة الإلكترونية الحديثة يمثل مشكلة في اعتياد الأطفال والناشئة على "تقنيات" في الكتابة تشمل حتى طريقة الجلوس أو استخدام اليد وتصل إلى صعوبة التعامل الذهني مع الورق التقليدي. ويرى الخبراء التربويون أن قيمة الكتابة بخط اليد لا تتعلق بدرجة وضوحها، بل لأنها على النقيض من الكتابة الإلكترونية - تتطلب درجة أعلى من التفكير والتخطيط والتوجيه، وهو ما يحتاجه الناشئة في التعامل مع مختلف المواضيع، ليس المدرسية فقط، بل في الحياة العامة أيضاً. يشير إلى ذلك مثلاً يوزيف كراوس، عبر تأكيد العلاقة الوثيقة بين القدرة على استخدام خط اليد، وبين ارتفاع مستوى التلميذ من خلال عناصر تعليمية أخرى، مثل "التجربة العملية"، وليس مجهولاً -كما يقول - أن الكتابة نفسها تتطلب القدرة على الرسم والأشغال اليدوية، ويحمّل مسؤولية انخفاض مستوى الكتابة اليدوية للناشئة للسياسات التعليمية الرسمية نفسها، ويورد على ذلك أمثلة، كتخفيض نسبة "الثروة اللفظية" المطلوبة في المرحلة الابتدائية، حتى في تدريس اللغة الألمانية نفسها، ويطالب بإلغاء مواد تتعلق بالعالم الافتراضي من الصفوف الأولى في المرحلة الابتدائية، مثل لغة الحاسوب،ووسائل الاتصال.



يصعب القول حالياً إن صانع القرار السياسي سيستجيب لتلك المطالب وما يشابهها أم لا، لا سيما وأن سياسة التعليم لا تتقرر مركزياً، بل عبر حكومات الولايات في دولة ألمانيا "الاتحادية"، وتقول المتحدثة الحالية باسم "مؤتمر وزراء شؤون التعليم والثقافة"، بورنهيلد كورت: "لا نستطيع وقف تسارع انتشار التقنيات الرقمية، ولكن هذا ما يضاعف أهمية تمكين المدارس من تأمين قدرة التلاميذ على الكتابة الواضحة المقروءة، بخط اليد"، وأضافت "إن خط اليد يعبر عن شخصية الكاتب نفسه، وعن نظرته إلى نفسه كشخصية مستقلة".

ألمانيا وسياسة التعليم
ليس هذا النقاش المتزايد حول تعليم الكتابة اليدوية سوى مثال على طبيعة السياسات التعليمية المدرسية في ألمانيا، إذ يبين الخطوط العامة الكبرى فيها، ومن ذلك، تطوير هذه السياسات وما يترتب على ذلك من تطوير المناهج والأنظمة وتأهيل المعلمين، بما يتلاءم مع مجرى التطورات في مختلف الميادين الأخرى، كالمجال التقني والإلكتروني في الحياة العامة والخاصة، على أن اتخاذ قرار بالتطوير كما كان في قرار تأمين الحواسيب في الفصول الدراسية الأولى، يتبعه دوماً إعادة النظر فيه على ضوء التطبيق العملي ونتائجه، لاتخاذ إجراءات تحسينية.

كانت الميزة الأهم في السياسة التعليمية منذ البداية هي العزوف عن التعليم بالتلقين والحفظ والجانب النظري، إلى التعليم الذي يعتمد على التحفيز وتنمية القرار الشخصي لدى الأطفال والناشئة واعتماد التجربة التطبيقية حيث يمكن ذلك.
ومن الميزات التي أصبحت في هذه الأثناء من أعمدة سياسات التعليم ومناهجه، ربط المضامين بالواقع، فإلى جانب المناهج والكتب في ميادين الأدب والتاريخ وما يشابهها، ينحو النظام المدرسي إلى مراعاة ما تقرره الدراسات الحديثة بصدد الاحتياجات الحاضرة والمستقبلية في القطاعات الاجتماعية والاقتصادية والبحثية.

وهذا ما يسري بصورة أوضح على المواد المدرسية ذات العلاقة بعلم الاجتماع والعلوم السياسية، فقد أصبح من الممارسات التقليدية طرح القضايا الحية، واعتماد متابعة الأحداث الراهنة، هذا علاوة على أن العامين الأخيرين في المدرسة يحفلان بالتدريب العملي للتلاميذ على كتابة بحوث ودراسات قصيرة، تؤهلهم للدراسة الجامعية، وعلى زيادة درجة اعتمادهم على أنفسهم في الحياة المدرسية، تمهيدا للتعامل مع ما ينتظرهم بعد مغادرة مقاعد المدرسة، إما لمتابعة التأهيل الجامعي أو لخوض معترك الحياة العامة من خلال دورات التدريب المهنية وما يشابهها.

وكما هو الحال بشأن التخلف في إتقان الكتابة اليدوية تظهر باستمرار الثغرات والسلبيات في الصيغة العامة للتدريس في ألمانيا، إنما سرعان ما يجري البحث فيها للعمل على مواجهتها، ومن المؤكد أن هذا ما يسري الآن على مشكلة جوهرية كمشكلة تنامي العجز الفردي عن الكتابة بخط اليد، تحت وطأة تسارع التطورات التقنية والإلكترونية الحديثة، وهو بالتأكيد ما لم يكن يتصوّره جوته عندما مارس هوايته في جمع كلمات للمشاهير بخط أيديهم.
المساهمون