زمن الموسوعة وزمن توت عنخ آمون

03 فبراير 2015
+ الخط -
استغرق الإصدارُ الأوّل لموسوعة الإسلام الشهيرة، التي تنشرها دار بريل، ثلاثة وعشرين عامًا (1913-1936)، ونصف قرن بالضبط كانت المدّة اللازمة لإنجاز الإصدار الثاني. وفي عام 2007 تقرّر البدء بالإصدار الثالث، وبالطبع لمّا ينته العمل بعد. فالزمن، في حسابات البحث العلمي، يبدو مفارِقًا للزمن في الحياة اليومية. لكأنهما زمنان مختلفان : زمن الصبر والدأب، وزمن السرعة والعجلة. ونحن في "عصر السرعة"، كما يُقال. لا أظن أننا ابتكرنا تعبير "عصر السرعة"، بل ترجمناه حرفيًا عن لغة الدول التي صنعته من خلال التقدّم العلمي والسيطرة، التي تكاد تطبع كلّ شيء على سطح كوكبنا، أو "أزرقنا البرتقالي"، والتعبير مستلهم، كما لا يخفى، من مطلع قصيدة بول إيلوار الشهيرة. 
أكثر من مائة عام على ولادتها، ولم نجد "زمنًا" لا لترجمتها، فهذا أقلّ من الواجب، بل لتأليف واحدة بمستواها من حيث العمل البحثي العلمي الذي قد يقرّبنا من أسلافنا القدامى، أبناء الحضارة الإسلامية، وأصحاب الفضل في بناء سمعة طيبة لنا، في الماضي، سمعة ما زلنا نعيش على رنينها العذب، منتشين بالخدر الذي يشيعه ذهب الماضي القديم، غافلين عن حاضرنا. 
نحن بعيدون عن أسلافنا سنين ضوئية على ما يبدو. وعلى ما يبدو أيضاً ثمّة مشروع لترجمتها، تونسي هذه المرّة، فلنتأمّل خيرًا، إذ إن مرّة الترجمة الأولى، لم تكن كاملة، تُرجمت الموسوعة جزئيًا في مصر وصدرت عام 1998 تحت عنوان : موجز دائرة المعارف الإسلامية، وتعثّرت الأمور. 
لم ترتح دار بريل لإنجاز الإصدار الأوّل، فتبعته بثانٍ، وتحضّر الثالث، لا لأن الزمن "على حسابها"، بل لأنها أخذت في عين الاعتبار الانتقادات التي تعرّضت الموسوعة لها، ورأت بعد سنين، أن من الأفضل للعمل، الاستعانة بباحثين وأكاديميين عرب ومسلمين، وقد كان. لكنّهم لا يشكّلون غالبية المساهمين في الموسوعة بالطبع، ونستطيع لمس آثار جهدهم، خاصّة في علوم اللغة العربية. اللغة العربية هي أساس هذا العمل ولبّه، إذ لا صدقية لباحث "أجنبي" ما لم يكن عارفًا بلغة الضاد. وللمرء أن يتذكّر، في هذا المقام، النقد البنّاء الذي وجهه باحثون عرب لمقال غوتهولد فايل عن علم العَروض العربي. نشرت تلك المقالات في دوريّات عربية، ولا نعرف إن وجدت طريقها بعد ذاك إلى الدار، إذ إن فايل شارك في الإصدار الأوّل للموسوعة، لكن مقاله نُشر في الإصدار الثاني أيضًا، كما لو أن وجهة نظر الباحثين العرب نافلة. 
الموسوعة إنجازٌ ضخمٌ ولا ريب، لكن فكرة إعادة العمل عليها، وإضافة المعلومات المستجدّة عند كل إصدار، فكرةٌ جوهريةٌ وأساسية، تبطن احترامًا كبيرًا لا للبحث العلمي فحسب، بل للقارئ، إذ يعرف القائمون عليها أنها غدتْ بمثابة المرجع الذي لا يمكن لباحث الاستغناء عنه، وترقى إلى درجة المظان. المظان كلمة من زمنٍ مضى، وتعني "موضع الشيء ومَعْدِنه، وهي من الظن بمعنى العِلم" وفقًا لابن منظور. 
من أجل كلّ هذا، كان لا بدّ من الحوار مع مدير مشروع الإصدار الثالث للموسوعة، التونسي عبد الرؤوف الوسلاتي. هي قيد الإنجاز، ولا بدّ لنا من عقد الصلات، وإبداء الرأي في الموسوعة الإسلامية أو "موسوعة الإسلام" بالترجمة الحرفية. وثمّة فرق بين الاثنتين، فرقٌ لغوي لا علاقة له بمحتوى الموسوعة، بل له علاقة باستعمال اللفظين اليوم. 
الإسلام ديننا وحدنا كعرب، آن نُربطُ كأمّة بالإرهاب، بيد أن اقترانه كوصفٍ بالحضارة، أي الحضارة الإسلامية، يوسّع الدائرة؛ فالعيون الغربية تراه وقتها واسعًا جغرافيًا ومتنوعًا، يصل الوطن العربي بأندونيسيا والهند وغيرها من البقاع. 
نظرة الآخر القوي المهيمن، قرينة تلك السيطرة التي تكاد تطول كلّ شيء، وبدلًا من التذّمر علينا تأمّل فكرة تقول بإنجاز موسوعتنا الخاصّة عن ديننا وحضارتنا، بقطع الزمن الذي سيستغرقه عملٌ مماثل. لكن ربما لا وقت لدينا، فنحن مشغولون بأمور أكثر أهمية وإلحاحًا. ونحن في "عصر السرعة". وعلى ما يبدو، كان العصر كذلك في المتحف المصري؛ ففي موقع الصدارة، داخل علبة زجاجية، توجد واحدةٌ من أحلى دلائل الفنّ الفرعوني القديم؛ قناع توت عنخ آمون، التحفة الفنية التي "أبهرت" العالم. 
للمرءِ أن يتخيّل زمنًا خارج الزمن استغرقه صنعها، زمنٌ أدنى إلى زمن الموسوعة الإسلامية. فالتحفة سليلة تلك الكيمياء الفرعونية وأسرارها؛ ذهبٌ خالصٌ وكوارتز للعينين ولازوردٌ للحاجبين، ذاك اللون الأزرق العميق، الأزرق النيلي. أصنع القناع مصريٌ قديمٌ واحدٌ أم أكثر؟ سؤال نافلٌ لأنّ لبّ الأمر في النتيجة الباهرة، التي تقول إن زمنًا خارج الزمن هو أساس كلّ إنجاز خالد. 
لكننّا اليوم في عصر السرعة، وإذ سقطت بظروف غامضة، الأسبوع الماضي، ذقن قناع توت عنخ آمون، سريعًا سريعًا حضر صمغٌ لاصقٌ سريعٌ مكين. أحضره مصريٌّ أو أكثر. لا وقت، لا وقت لأي انتظار، فنحن في عصر السرعة. كما الجريمة، بكلّ خفّة، يوضع الصمغ على الذهب واللازورد، وكيفما اتفق يُلصق الذقن، كالإهانة للهوية.


المساهمون