لؤي كيالي فنان عاش مرتين ومات مرتين

17 فبراير 2015
+ الخط -
ثمّة طبائع تجعل الفنّان ومعه الفيلسوف رجلًا خارج المألوف، لا بهيئته وسمْته فقط، لكن أيضًا وخصوصًا بطويّته النافرة القلقة كما بصمته أو هذره، وبأرقه ومصاحبته لليل، وبموته المأساوي أو المبكر.
في الحديث عن هذه المصائر المتكسّرة، تحضر الحياة المرتجّة للؤي كيالي. وجد كيالي ميتًا في غرفته حرقًا؛ في تلك الليلة من سبتمبر/أيلول 1978، أخذ النوم لؤي كيالي في وحدته المعتادة، لم تكن بين أحضانه رفيقة حياة كي تنزع السيجارة الملتهبة من بيد أصابعه، ولا لكي تهدّئ من روع بواطنه الفوّارة. انتشرتْ النار في جسده الملتهب سلفًا بحرقة الأسئلة الوجودية وبالكآبة القاتلة. في المستشفى لم يمهلْه الموت أكثر من ثلاثة أشهر. ولأن عائلته كانت دومًا وراء اتهامه بالجنون، ووراء إدخاله مستشفيات الأمراض العقلية والعصبية، فقد سرت الإشاعة أن الفنان المتقلّب المزاج و"الغريب الأطوار" قد انتحر. والحال أنه أكّد لأصدقائه القلّة المقربين أنه لم يقدم أبدًا على الانتحار.
ربما كانت في لاوعيه تلك الرغبة، التي عشّشت في بواطنه من غير أن يكون قادرًا على اقتلاعها. بيد أن هذا الفنّان الاستثنائي ظلّ يحمل في جوارحه طعم الطهارة؛ المفارقة أن الفنّانين والكتّاب الأكثر انغماسًا في عوالم الليل، هم الأكثر توقًا لنقاء الجسد. يحكي المقرّبون من الحياة العصيبة للؤي كيالي، أنه عاش تلك المفارقة على طريقته. كان الرجل لا يؤمن بالحياة الزوجية، وكأنّه يحمل في داخله كيانًا أندروجينيًا، أو كأنه يعيش الأسطورة "الآدمية" قبل ظهور حواء للوجود. غير أنه كان يعشق مغنّية شعبية غير معروفة. يحمل حبّها في صمت، حتّى أنه لم يرسمها أبدًا، هو المهووس برسم المرأة في كامل أوضاعها الاجتماعية، من غير أن يعريها أو يوحي بفتنتها. المرأة لم تكن تهمّه إلا باعتبارها كيانًا يعيّن المأساة الاجتماعية.
لؤي كيالي من مواليد حلب سنة 1934. بعد دراسة الحقوق والتوظيف في المعتمدية العسكرية أوفدته وزارة المعارف السورية إلى إيطاليا سنة 1956 لدراسة الفنّ في أكاديمية الفنون الجميلة بروما. كانت هذه الأكاديمية ومدرسة الفنون الجميلة بباريس قبلة الفنانين العرب في تلك المرحلة. وأعتقد جازما أن الفنان التقى هناك، في منتهى مقامه بروما، شبيهه المغربي في المصير والمزاج الجيلالي الغرباوي، الذي عاد بدوره للمغرب إثر إصاباته المتكررة بأزمات نفسية سوف تدفعه مرتين إلى محاولة الانتحار.
لم تكن الجوائز التي حاز عليها الفنّان لتهدئ إلا مؤقتًا من نوبات اكتئابه. فنفسيته الحسّاسة والهشّة كانت تقوده دومًا إلى الانزواء في مغارته الداخلية. تلك الحساسية هي التي جعلته يكرّس لوحاته للبسطاء، وكأنه يرى في هشاشتهم مصيره الداخلي. لوحاته تنضح بالحزن والمأساوية وملامح شخصياته متشبّعة بالكآبة. في إحدى لوحاته، نرى جمعًا من النساء المتحلقات بجلابيبهن الكامدة الألوان وعيونهن المحدقة إلى الأعلى أو يمينا ويسارًا. وفي الجانب ثمّة امرأة واحدة تمسك بصبي يحدّقان فينا، وكأنهما يستثيران حضورنا. إنها لوحة الرعب والموت. الموت حاضرٌ في أغلب لوحات الفنان، تكاد رائحته تزكم منا الأنوف.
كثيرة هي اللوحات التي تحمل فيها المرأة رضيعًا أو جثمان صبي. الحقيقة أن لؤي كيالي يبدو وكأنه يحكي لنا عن نفسه حتّى وهو يوارب ذلك. صورة الأم وصورة الصبيان تحيلنا إلى تلك الرغبة الدفينة لديه في العودة إلى الرحم الأمومي. إنها تعبّر عن ذلك الطفل الذي يرفض أن يكبر وأن يصير رجلًا ويعاود لعبة الحياة التي جاءت به إلى الوجود.
من أين أتت كلّ هذه القوّة التي تحملها أعمال الفنّان؟ لا مراء في أن لؤي كيالي كان يستمدّ طاقته الجبّارة من جسده وعقله الواهن، ولا شكّ في أنه كان يمارس الرسم والتشكيل بجسده وعروقه، حدّ الإنهاك، بقلق، وبهيجان أحيانًا. فلقد كان الرجل فنّان قضية أيضًا. ألم يمزق كامل لوحاته ورسومه التي عرضها قبل حرب 1967؟ كان وقع الهزيمة كبيرًا عليه، فقد سقطت تماثيل الرمال والأوهام القومية مع مهب الريح. وهو ما جعل الحالة النفسية للفنان تضطرب أكثر فأكثر.
ما يقرب من أربعين سنة مرّت على رحيل هذا الفنان المغترب في ذاته وفي وطنه. وتظلّ بصمته واضحةً في أعمال الفنانين الذي جاؤوا بعده، سواء في أسلبة الجسد أو في التفجير التعبيري للملامح والهيئة. وهو يبدو لي اليوم، مع هذا الفارق الزمني، فنّانا مليئا بالحكايات الخفية، ومنبعّا لا ينضب لدراسة حيوات الفنّانين. ثمّة من الفنانين العرب الحديثين من لا تجد في حياته حكاية، ولا أسرارًا ولا ألغازًا.
لقد ترك لنا لؤي كيالي حياةً غنية بالمفارقات وبالحس المأساوي. وترك لنا بالموازاة، رصيدًا فنيًا يبيّن عن ذات تتجاوز أحلامها، صغرَ العالم. إنه فنّان عاش مرتين ومات مرتين: عاش مرّة في ذاكرة محبيه وفي ذاكرة الفنّ العربي، ومات مرتين في حياته وفي حياة من يتجاهلون ثراء وجوده وفنه. ولو لم يكن أغلب سينمائيينا يصوغون الحكايات المرتقبة النهاية لوجّهوا بعضًا من خيالهم نحو هذه الحيوات التي تترك بصماتها واضحة في التاريخ الخفي للفنّ التشكيلي العربي. كم من شريط سينمائي وتسجيلي خُصص لفان غوخ وفرانسيس بيكون وغيرهما من ذوي الحيوات الاستثنائية؟ فيما تظلّ حيوات فنانينا الأكثر أصالة مجهولة البيان.
إن الذاكرة القصيرة وفقر دم الخيال الفني العربي يجعل من الغرباوي ولؤي كيالي شخصيات لا تزال تشتغل مساراتها ومصائرها في صلب التاريخ الفعلي للفن العربي الحديث والمعاصر، وما علينا إلا أن ننبش قليلا كي نستعيدها في طراوتها الآسرة وفي مأساويتها النبوئية...
المساهمون