الإيقاع: أعرافُ الشعر النجديّ وتقاليده تجربة الدندان نموذجًا

12 يناير 2015
+ الخط -
حظيتُ بقضاء نحو ستة أسابيع مع بدويّ عظيم مُعْدَم، لكنه فخور وأبيّ، وهو واحد من أعظم شعراء قبيلة الدواسر، في جنوب نجد، يُدعى "عبدالله بن حزيم الحرارشة" وهو من الرجبان، فخْذ من قبيلة الدواسر، لكنه معروف عند عامّة الناس بلقبه "الدندان"، ولغوياً هو اسم مشتقّ من الفعل "دنْدنَ" من "الرنين، همهمة اللحن ودندنته، وإيقاع الشعر". 
كان الدندان وزملاؤه يقطعون الفيافي مثل حُداة العِيس، يتجاذبون أبيات الشعر في إيقاعٍ متناغم ٍعلى رويّ واحد، يتناوش نشاطَهم هذا اللعبُ والجدّ، يهتفونَ مشجِّعين، يتصاعد التنافس بين الحناجر مُسرعاً، وهو ما نقله لنا الدندان في شعره: 
إنْ دندنو قمتُ أنا ألعب لعب دنداني / وإن غطْرفوا بالقوارع قمت أقدّيها 
في الواقع، لقد اقترنتْ معرفة الناس بموهبته الشعرية بكون اسمه هو "عبدالله الدندان"، ولم يُعْرَف بغير ذلك، وعندما يتتبَّع هو عُرف الشعر الشفوي، فإنَّه يرمز لاسمه في البيت الأول من القصيدة مثل "رسّام يهمُّ بتوقيع اسمه في إحدى الزوايا السفلية للوحته القماشية"، وهذا ما فعله هنا: 
شرف الشاعر الدندان رجمه الحاله/ قال شفّه بكيفه من حسين الكلامي 
افتقر الدندان إلى التعليم، ولكن ذلك لم ينعكس على فنّه، فلقد سَجَّلتُ نصف شعره تقريباً وأنا أجالسُه، واحتوى شعره على مؤشرات واضحة تنمّ عن ذوقه الشعري وممارسته العملية الإبداعية، ومن ضمنها مقاطع مفاخرته بتميّزه بين أقرانه من الشعراء، فتتباين هذه الدلالات من حيث الطول والإسهاب، من بيتٍ شعري واحد إلى قصيدةٍ كاملة في اثنين وعشرين بيتاً. تُقدِّمُ مع بعضها صورة حول مفاهيم "الدندان" عن طبيعة الشعر وعلاقته به. 
إنَّ الغالب في شعر النسيب النجْدي - ويسمَّى الشعر النبطي أيضًا - هو المزاج الرثائي، كما هي حال القصيدة العربية الكلاسيّكية في سوداويّتها، وكذلك وصل المزاج الرثائيّ إلى الكثير من المحفِّزات الكلاسيّكية، كما هو حال مشاهد الأطلال أي (وصف المزاج السوداوي للشاعر عند وقوفه على آثار خيام مهجورة، يظنّ الشاعر أنها ربّما كانت يوماً مأهولة من قبل عشيرة حبيبته). كما نجد أن شاعر النسيب يشكو من تقدّمه في العمر، ناعياً هرمَ جسده المترافق مع شباب قلبه المغرم. 
إنَّ خُطاطة نموذجية لأبيات الشعر تلك؛ ترسم خطى الشاعر وكيفية تعبيره من خلال دفقة عاطفية ضخمة تكون موجهاً إبداعياً لاستمرار ولادة الأبيات الشعرية، كما أنها تكون مسوّغاً موضوعياً لما سيتلو من أبيات وأفكار. لهذا فإن النسيب هو أحد مكوّنات الشعر وأحد أسباب حصوله. 
لا تنبعُ أهمية وظيفة مقدّمة القصيدة في شعر "الدندان"، من كونها تقليداً نجْدياً في قول الشعر فحسب، بل لأنه أفسح المجال لطاقة ذهنية أبدعت المزيد من أشكال المحفزات الأقرب إلى روحه الشعرية. وهذا هو منبع إلهامه، الذي تمظهر نشوةً تستولي عليه كـ "وحي"، لتصبح هي ذاتها الموضوع الدرامي، والباعث الرئيس على قول الشعر. وتتضمن هذه المقاطع، غالباً، علامات غنى الخيال الفني والتشبيهات الكثيرة، التي تترجِم المبالغة في العواطف من خلال مشاهد درامية من حياة البدو والقرويين. وبالتالي يُقدِّمُ النسيب ذاتَه كما لو أنه المجال الأنسب لتوضيح العلاقة الداخلية بين أعراف الشعر، وذكاء الشاعر الخاص. 

ترجمة: د. آراء الجرماني

المساهمون