هموم النشر، هموم المجتمع

30 ديسمبر 2014
+ الخط -
عندما بدأت التفكير بإنشاء دار للنشر (دار كنعان)، في مطلع الثمانينيات، كلّمت بذلك الروائي والناقد الراحل غالب هلسا، سألني: هل فكّرت بكل التفاصيل الضرورية؟ وإجابة عن سؤالي، مثل ماذا؟ قال هلسا: كلّ التفاصيل، من أصغرها شأناً إلى أكبرها، بدايةً من اسم الدار، ومروراً بالإنتاج أي النشر، وانتهاءً بالتسويق وتحت كلّ عنوان من هذه العناوين، تفاصيل تحيل على مستقبل المشروع، واحتمال نجاحه من عدمه. وعليك أن تهيئ كلّ شيء، لنبدأ بداية متينة، وأقترح في هذا المجال، أن تعيد الدار المزمع إنشاؤها نشر روايات "وأشار لأحد الروائيين" الذي كان قد أصدر حتّى ذلك التاريخ، أربع أو خمس روايات لا أكثر.
شغلني التفكير بتكاليف إصدار تلك الروايات، وعندما وجدت أنها خارج إمكانياتي، أقلعت عن التفكير بذلك، وهذا ما أدّى إلى إرجاء إطلاق دار النشر حتّى نهاية الثمانينيات. كان هلسا قد رحل عن الدنيا، بشكلٍ مبكّرٍ، كما تنبأ ربما بآخر أعماله الروائية "الروائيون" حيث تنتهي الرواية بموت بطلها، الذي أطلق عليه اسم "غالب".
وعند إطلاق دار كنعان، فكرت بالاقتراب من البداية القوية التي حدثني عنها هلسا، وذلك بإعادة إصدار أعماله الكاملة، وكان لا بدّ للدار من أن يقوى عودها قبل تحقيق ذلك الحلم. وانطلقنا بروايتين، "تجربة في العشق" للطاهر وطار، و"الجنرال في متاهته" لغابرييل غارسيا ماركيز، ولسنوات ظلّ حلم إعادة نشر أعمال هلسا الروائية والنقدية والمترجمة يراودني، وتحول الإمكانيات اللازمة دون ذلك، إلى أن فوجئت بصدورها عن دار "أزمنة" في عمّان ليداهمني حزنٌ مريرٌ، فأعمال هلسا ذات قيمة أدبية وبحثية عالية، ولغالب في قلبي مكانة خاصّة، أبقت على ذلك الحلم، حياً في نفسي، إلا أنه لم يتحقق.
أستعيد الآن تلك الحوارات، وأشعر أنني ممتنٌ لذلك الصديق، الذي ساعد بشكل أو آخر، على تحديد مسار الدار عبر إصداراتها الجادّة وخطّها التنويري، اللذين أكسبا الدار سمعة طيبة، لكن في الآن نفسه، أزاحتها قليلاً أو كثيراً عن الهاجس التجاري، أي الجانب الضروري لاستمرار نشاطها وفعاليتها، ممّا حملها الكثير من الهموم والتبعات، وهي ضريبة قد لا يعاني منها ناشر لا تشغله الهواجس والمعايير نفسها. إذاً، هموم الناشرين ليست واحدة، بل تختلف من ناشر إلى آخر. إلا أن ذلك لا ينفي وجود هموم مشتركة، قد تطول عموم الناشرين ودور النشر، وأهمها التسويق.
أذكر، عندما دعيت لمعرض فرانكفورت للكتاب، عندما كان العالم العربي ضيف الشرف، عُقدت على هامش المعرض ندوات نظّمها معهد جوته وإدارة المعرض، كان أحدها يتعلق بالتوزيع، تحدّث فيها أحد مالكي مؤسسة للتوزيع في ألمانيا: "لدينا عدّة مستودعات مساحة كلّ منها مساحة ملعب كرة قدم، تأتينا طلبات الكتب ليلاً، وعلينا أن نوصلها للمكتبات صباحاً، نحن نوزع كلّ يوم حوالي ستين ألف نسخة من مختلف العناوين".
يحيل هذا الكمّ الهائل من الكتب التي توزع "هناك" على أمر آخر؛ القارئ. فمن غير وجوده كيف يمكن تسويق هذا الكمّ من الكتب؟ فـ "هناك" قرّاء، و"هنا" عزوفٌ عن القراءة، لأسباب عديدة معقّدة؛ بدايةً من الأسرة وتربية الطفل، ومروراً بالمدارس وطرق التدريس، ونهايةً بسياسات الدولة ومدى اهتمامها بالثقافة، وهو أمرٌ نفتقده تماماً على كافّة المستويات سواء في البرامج الإعلامية التثقيفية، والمراكز الثقافية، ومعارض الكتاب - العاجزة شاءت أو لم تشأ - عن مقاربة الأهداف التي يفترض أنها وُجدت من أجلها. فهل بمقدور الناشر تحقيق هذا كلّه بمعزلٍ عن الرقابة بكلّ أشكالها؛ الرقابة الرسمية، رقابة المجتمع، الرقابة الذاتية؟ هموم النشر متعدّدة.
المساهمون