ألبانيا: بين الأورَبَة والسلفية

14 ديسمبر 2014
غلاف كتاب ألبانيا بين الشرق والغرب (تيرانا: 2013)
+ الخط -
ثمة اعتقاد بأن مشاكل البلقان تنبع من أدلجة التاريخ، وترسّخ صور مضخّمة عن الذات ومعادية للشعوب المجاورة، تقوم على الشعور بالغبن نتيجة لعدم تحقق "الدولة القومية" وفق الحدود المرغوبة. ويبدو الآن وبعد قرن من الصراعات التي ابتدأت من حروب البلقان 1912-1913 واستمرت إلى حرب كوسوفو1999، أن المنطقة قد استقرت على خريطة ما، وأصبحت الأجيال الجديدة تنفتح على صور أخرى من التاريخ البلقاني، بفضل مجموعة من المؤرخين الأوربيين الذين تخصّصوا في البلقان، وتمكنوا من تغيير بعض الأساطير المتعلقة بالتاريخ القومي للمنطقة.

من هؤلاء المؤرخين السويسري اوليفر شميت O.Schmitt أستاذ تاريخ البلقان في جامعة فيينا، الذي نشر سلسلة مؤلفات ساهمت في تعرف الألبان بشكل مختلف على تاريخهم، مثل "ألبانيا الفينيسية" و"اسكندر بك" وأخيراً "تاريخ الألبان بين الشرق والغرب". ومن الطبيعي أن يحظى تاريخ الألبان باهتمام لكونهم أكبر شعب مسلم في البلقان، وبالتالي تجمع تجربتهم بين هوية أوروبية وأخرى إسلامية. غير أن الألبان شملتهم "حمّى الأورَبَة " بعد سقوط النظام الشمولي في 1992، وحظيت بلادهم في يونيو/ حزيران الفائت بوضعية دولة مرشحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. إذ بقيت ألبانيا زهاء ألف عام ضمن "الشرق البيزنطي" ثم قرابة نصف تلك الفترة ضمن "الشرق العثماني"، وخمسين عاماً ضمن "الشرق الأيديولوجي".

لا يتقبل المؤلف في القسم المتعلق بالتاريخ الأسطورة التي تسلّم بانحدار الألبان مباشرة من الإليريين، الذين كانوا ينتشرون في غرب البلقان وسقطت دولتهم في 168 ق.م أمام التوسع الروماني في حوض الادرياتيكي، وهي التي تعتبر حقيقة ثابتة في كتب التاريخ الألباني. صحيح أن المؤلف يعترف بأن الألبانن مثل الباسك، من أقدم الشعوب الأوروبية التي نجت من الرومَنَة، إلا أنه يبحث عن لحظة بداية التاريخ الألباني.

والأمر المهم هنا، هو التمييز بين تاريخ ألبانيا وتاريخ الألبان، لأن الألبان انتشروا عشية الدولة العثمانية وخلالها كما لم ينتشر أي شعب بلقاني آخر، وبالتالي أصبح تاريخهم جزءاً من تاريخ اليونان وحتى مصر التي تميزت بجالية ألبانية مهمة جاءت مع محمد علي باشا، وتزايدت بعد وصوله للحكم في1805، وأصبح لها دورها في النهضة القومية الألبانية في القرن التاسع عشر، والتي أفضت لاحقاً إلى إعلان استقلال ألبانيا عن السلطنة العثمانية عام 1912.

بيد أن القسم الأهم في هذا الكتاب، هو الذي يناقش طبيعة الإسلام الذي انتشر بين الألبان وتأثيره على تاريخهم اللاحق. وهنا يخالف المؤلف بعض النظريات التي تتحدث عن فرض الإسلام عليهم بوسائل مختلفة، ويميز شميت بين الانتشار الهادئ للإسلام في القرنين الأولين للحكم العثماني، أي الخامس والسادس عشر الميلادي، وبين القرنين اللاحقين، حيث بدأ ضعف الدولة العثمانية وازدادت التمردات المسيحية، مما جعل الإدارة العثمانية تلجأ إلى وسائل أخرى لتسريع أسلمة الألبان، كزيادة الجزية على المسيحيين.

ومع انطلاق "قرن القومية" الأوروبي كان لا بد لرواد النهضة القومية الألبانية في القرن التاسع عشر أن يجدوا صيغة مختلفة لـ"القومية الألبانية"، في الوقت الذي كانت القوميات المجاورة في البلقان متماهية مع الدين. وقد تأخرت بلورة هذه الصيغة حتى عام 1878 حيث قامت على أساس اللغة والثقافة المشتركة وليس الدين، وأمكن بذلك للحركة القومية الألبانية أن تواجه حكم السلطان عبد الحميد الثاني 1876-1909 بالمطالبة بالحقوق الثقافية وصولاً إلى المطالبة بالحكم الذاتي، في الوقت الذي كان فيه السلطان يروّج للجامعة الإسلامية.

وحصل الألبان في 1912-1913 على الاستقلال بدعم من النمسا وايطاليا عوضاً عن الحكم الذاتي، ومنذ ذلك الحين بدأ الانقسام الذي شطر الألبان إلى قسمين متساويين تقريباً: ألبانيا في الغرب، وولاية قوصوه العثمانية (كوسوفو) في الشرق، التي ضُمّت إلى صربيا-يوغسلافيا، وبعد ذلك بسنوات استقرت بحدودها الحالية، وانضمت إلى عصبة الأمم لتكون أول دولة أوربية بغالبية مسلمة. ثم انخرطت في تجربة التحديث التي قادها الرئيس-الملك أحمد زوغو 1922-1939 وهدفت الى"تحرير" ألبانيا من التركة العثمانية/ الشرقية، وتكريس إسلام معتدل أو"إسلام أوروبي"، مع إقرار القانون المدني وإلغاء المحاكم الشرعية.

وقد دفع ذلك بعض رجال الدين للاحتجاج على هذا "التغريب"، ومن هؤلاء الشيخ نوح نجاتي الذي هاجر مع أسرته إلى سورية، حيث أصبح ابنه ناصر الدين الألباني 1914-1999 من رموز السلفية الصاعدة في العالم الاسلامي التي انتهت أخيراً إلى وسمها بـ"السلفية الألبانية". ومع أن ألبانيا ويوغسلافيا حكمها الحزب الشيوعي منذ1945، إلا أن الايديولوجية هنا باعدت بين النصفين الألبانيين.

وبينما يؤكد المؤلف في الختام أن الألبان غدوا الآن أقوى بكثير في البلقان مما كانوا عليه في السابق، يرى بأنه ومع المرحلة الانتقالية إلى الديموقراطية واقتصاد السوق والاتحاد الأوروبي، تجدد النقاش القديم حول طبيعة التوجه الثقافي للألبان بين الشرق والغرب، ودور الإسلام فيه بشكل خاص. وفي الحقيقة أن الفترة التي أعقبت صدور الكتاب 2013-2014 أثبتت صحة رؤيته، فقد ظهرت سلفيات إسلامية بما في ذلك "الجهادية" التي جنّدت المئات من الشباب للذهاب إلى سورية والعراق للقتال هناك.

* أكاديمي كوسوفي/ سوري
المساهمون