برتقال مرّ

01 ديسمبر 2014
+ الخط -
باكرًا جدًا حذّرتني جدّتي من الاقتراب من الخرّوبة ليلًا. قالت إنّ "بسم الله الرحمن الرحيم" يسكنونها. لم أفهم من عساهم يكونون، لكنّي فهمت أنّهم خطيرون ومخيفون، وكنت حين أمرّ نهارًا قرب الخرّوبة أرتعد. هل لهذا السبب كانت خالتي تؤيّد قطعها؟ أم بسبب صوت البومة الذي يُنذر بالشؤم؟ 

لم تُقلع خالتي عن فكرة التخلّص من الشجرة، إلّا حين قالت جدّتي، وهي تقلّب حبّات الكستنة في "الكانون" الصغير: "يضلّوا بالخرّوبة أحسن ما ينقلوا ع محلّ تاني". 

غاب عقل خالتي بعيدًا، بينما بقي عقلي مع حبّات الكستنة وأصابع جدّتي المتجعّدة، التي راحت تقلّب الحبّات المشويّة من دون حاجة إلى ملقط، ومن دون أن تمسّها الحرارة بسوء، بسببِ خشونة جلدها. لم تمسّ حرارةُ الجمر سوى رائحة "المازهر" الساكنة بين مسامّ جدّتي، ففاحت بنعومة في المكان. حتّى حين أعجزَتها الأمراضُ المتراكمة، بقي دمها يفوح بالروائح الزكيّة، التي صارت مع الزمن جزءًا منها. 

حين كنتُ أجفّفها وألبسها الملابس القطنية كانت رائحة صابون الزيت والخزامى و"المازهر" تفوح من شرايينها، كأنّها طالما سكنت فيها. 

كنتُ أكرّر عرض الطعام عليها. أخشى أن تجوع في الليل، ولا تتمكّن من إخباري، أو أن يخطفها الموت وهي جائعة. 
ذاك كان كابوسي. أن يخطفها قبل أن يطلع الصباح، وأطعمها حلوى "ليالي لبنان" التي تعلّمتها لأجلها. 

لم أعرف كيف أقول لها إنّني أحبّها، وكيف أعتذر لأنّني أتركها منذ سنوات تنام وحدها، وأنام في غرفة نوم مستحدثة على سطح المنزل. كيف أتبرّأ من ترفّعي عنها وتهرّبي من شخيرها وتأفّفي... كيف أخبرها أنّني أكره نفسي الجاحدة التي يئست من مرور أيامٍ لا يحدث فيها شيء، ولا أعثر فيها على إجابات، ولا حتى أرغب في الطبخ لأحد. 

"بس دوقي من كل صحن لقمة، بس دوقي طعمتهن"... 

كانت تتهرّب سائلةً: "بدّكش أحكيلك حكاية؟ أو مفكّرتيني كبرت ونسيت؟". لم تخشَ الموت جائعة، بل الموت من دون ذاكرة. 
تروح تحكي الحكاية بتشتّت، وتخلطها بحكايات أخرى وتغيّر أقدار الأبطال، ثم تستنجد بي وهي تعرف أنّني أجاملها ولا أصحّح لها. 
أحكي الحكاية لتتذكّرها. يكون الظلام شديدًا فلا أرى دمعتها، لكنّني أعرف أنّها متجمّعة في حافّة عينها. 

أبكي أنا أيضاً بين جملة وجملة. وأحبس شهقتي حتى يعيش أبطال الحكاية في "تبات ونبات". 
منذ عقدين ونصف كانت هي تغسلني وتُلبسني وتضعني في الفراش، اليوم لا أردّ لها الجميل، لأنّها لم تطلب مقابلًا أبدًا، ولا أشعر بأنّني أفي بدين، بل أكفّر عن ذنب سأشعر به. 

حين قالت عن أمّها قبل عقد ونصف بأسف "مضيّعة"، وكانت تقصد أنّها أضاعت جزءًا من ذاكرتها وإحساسها بالزمان والمكان، جلست تبكيها كأنّها ماتت فعلًا. هوّنت عليها الجارات، ولكنّها بقيت تردّد "المضيّع تلات ترباع ميّت".عرفَتْ هذا يقينًا من عشرتها للعجزة. لم تتحدّث عن انفعال أو غباوة. 

أتذكّر العجزة الذين كانت تغسل أغطية أسرّتهم وملابسهم. كانت تجنّبني زيارتهم، لم تصحبني معها إلّا للضرورة القصوى، ولم تتحدّث عنهم أمامي إلّا بكلمات قليلة، لم تخلُ من غصّة تُخفي الكثير، ما جعلني أتخيّلهم يبكون كالأطفال لأنّ أحدًا من أقاربهم لا يزورهم، ولأنّهم يتغوّطون في أسِرّة ليست أسرّتهم، ولأنّ عظامهم تتآكل في البرد والوحشة. 

حين كنتُ أرافقها إلى دار العجزة، كنتُ أقف بعيدًا، أخاف الاقتراب منهم، لأنّهم كانوا مجعدي الجلد، كجلود سلاحف الحقل، ويتحرّكون ببطء مثلها. 

لم أقل لها إنّها لن تموت الآن، كنت أذكّرها بأهلها وإخوتها الذين بلغوا جميعاً العقد الثامن. كنتُ مطمئنّةً إلى أنّها لن تموت قبل بلوغ الثمانين. لكنّ الحياة سخرت منّي. 

كنت أجلس فوق عتبة البيت أشحذ دفء شمس آخر الشتاء، حين سمعتُها تندبُ جدّي في فراشها وتنشد "ردّات" الموتى، عرفتُ أنّها تُحتضر. خفتُ وقمتُ إلى المطبخ أسلق عظام الغنم والقمح لأجل الهريسة التي تحبّها كثيرًا. 

أبلّل قطنة بـ "المازهر" وأمسح وجهي. ثم أضعها فوق عروق معصميّ. طالما فعلت هذا لتهدئة روع نفسي. لا أعرف ممّن تعلّمت هذه الطريقة، وإن كنت تعلّمتها أم ابتكرتها. لكنّني أذكر أنّ إحدى خبيرات التجميل كانت تتحدّث مرّة في التلفزيون وتوصي برشّ العطر على العروق، لأنّ هذا يجعلها تتفاعل جيّدًا مع الجسم، ويجعل رائحة العطر تدوم أكثر. "المازهر" لا يدوم أكثر إن لامس العروق، بل هو يسكن في الروح. طالما آمنّا بأنّه يردّ الروح. ليس بفعل سحر، بل لأنّه روح بنفسه. 

لا شكّ في أنّك قرأت رواية "العطر" التي أذهلتني وأرقدتني في الفراش ذعرًا من ذاك المجرم المعتوه. لم أجدها في مكتبتك، بل اقترضتها من طالبة جامعية كانت تمرّ بالاستهلاكية أسبوعيًا، وقد أعجبني العنوان فسألتها عن الرواية. أبدت حماسةً كبيرةً لسؤالي، كأنّها على وشك ترويض الريفية الجاهلة لتدخل عالم النور والثقافة.

أعارتني الرواية، وقالت إنّها ستمرّ الأسبوع المقبل لتستعيدها، وتمنّت عليّ أن أنهيها في أسبوع. لم أخبرها أنّني أنهيتها في ليلتين متتاليتين، لأنّ إثارة إعجابها لم تكن في حسابي. لقد كنت أنا نفسي في دهشة عارمة، أفقدتني توازني عدّة أيّام. 

مجنون يبحث عن ذاك السرّ، ويروح يذوّب الأشياء كي تنفث بخارها، ويتحوّل البخار إلى قطرات هي روحها الصافية المقطّرة النقيّة والطاهرة. جدّتي لم تعرف بطل الرواية، وما كانت لتصدّق حكايته، برغم أنّها ليست أغرب من حكايات غيلانها وجنّياتها، وما كانت ستعرف كيف تنطق اسم زوسكيند، وإن كانت تشترك معه في تقطير روح زهر البرتقال المرّ لتحصل على ما يسمى "المَازَهر"، الذي تبيع معظمه بربح ضئيل لكنّه يرضيها. 

كنت أساعدها في قطاف الزهور. نقصد كلّ شجرة برتقال من نوع "بوسفير" وأحبّ تسميتها نارنج، كما تُعرف في الكتب. هي الوحيدة التي تنفع صناعتنا تلك، وذلك لخير الشجرة، ففي النهاية ثمارها مُرّة ولا تؤكل ما يهدّد بقاءها، لهذا أوحت للبشر بأنّها ستكون نافعة لو قطّروا روحها كي لا يقطعوا نسلها، في صراع البقاء الذي علّمنيه داروين في مكتبتك ووجدتُ تفسيراتِه في تسكّعاتي.

دافعتْ شجرة النارنج عن بقائها ووجودها بأن تكون صالحة لصنع "ماء الزهر". كنّا نقصد كلّ شجرة يتيمة لا يهتمّ أصحابها بقطف زهورها. نستأذن أحيانًا ونقطفها حتى آخر زهرة، فوجاً بعد آخر، أسبوعًا بعد أسبوع... نجمعها ونقصد قرى أخرى، وتحديداً الساحلية، حيث بساتين الحمضيات، قبل أن يهجرها أهلها وتموت خيراتها. 

* من رواية تصدر حديثًا
المساهمون