كوابيس العراق الملوّنة

25 نوفمبر 2014
+ الخط -
حين أراد الروائي ذو الاسم المستعار مهدي حيدر أن يهيئ عقابًا لعزيز الحاج في يتيمته (عالم صدّام حسين)، ابتكر شيئًا قوي التعبير، عراقيّ الصدى؛ حَرَمه من رؤية الألوان: "بعد التصوير أخرجوه إلى شرفة فرأى سماء بيضاء ودجلة أسود.... ورأى بغداد سوداء، ورأى الأفق أبيض. فرك عينيه كي يرى بالألوان مرّة أخرى، بينما العراقيون في أنحاء البلاد وإلى آخر نقطة يبلغها الإرسال يتابعون اعترافات عزيز الحاج بالأبيض والأسود". للنقد أن يستفيض في تحليل طبقات المعاني ومغزى المجاز في حرمان العراقي من رؤية الألوان، فالمجاز "قنطرة" الحقيقة كما قالت العرب. بيد أن هذا المقتطف من المقطع الممتدّ إلى صفحات في الرواية البديعة، يبطن مفارقةً باهرةً تجمع بين الرواية والرسم العراقييْن. إذ تكاد الروايات العراقية التي كُتبت بعد الغزو الأميركي لبلاد ما بين النهرين، تتفق على السوداوية والسواد المهيمنين في أرض السواد، التي كُنيت بهذا الاسم إشارةً للون آخر هو الأخضر المشعّ نظرًا إلى وفرة الزرع والنخيل فيها وفقًا لياقوت الحموي. 
الأجواء الكابوسية السوداء، وتعريض العراقي باستمرار لامتحانات غير مسبوقة ولا رادّ لها، يسمان طائفةً غير قليلة من الروايات العراقية، فإنعام كجه جي اختارت في "الحفيدة الأميركية" لشابّة عراقية العمل مترجمةً لدى المحتلّ الأميركي، هكذا وضعتها في مواجهة امتحان يكاد يكون وجوديًا. أمّا سنان أنطون فجمع بين الامتحان و"الألوان" إذ اختار لبطله في "وحدها شجرة الرّمان" مصيرًا مخيفًا، حيث رتّب له ظروفًا تمنعه من الرسم، وتجبره على العمل مغسّلًا لجثث قتلى لا حصر لهم ولا عدد في بغداد. ولم يشذ أحمد السعداوي عن قاعدة الكتابة العراقية الكابوسية، في روايته "فرانكشتاين في بغداد"، فابتكر مسخ "الشسمّه"، ليرفع الإدانة نحو مصاف الأوج.
هذه الروايات وغيرها، تتفق أيضًا في نقطة رئيسة: وعي الروائيين بضرورة التركيز على الجانب الإنساني من المأساة العراقية المستمرّة، ووصف الخراب المعمّم في البشر والحجر. ولعلّ مرد هذا درسٌ فلسطيني شهير يقول إن رفع المأساة المحليّة نحو بعد إنساني أجدى للقضية والأدب معًا.
يمتاز العراقيون بصلابة القول وصدقه في ما يخصّ الإشارة الصريحة إلى مشاكلهم؛ مثل أثر الآفة الطائفية المستشريّة بشكلٍ رهيبٍ في بلادهم. وحين يكتب العراقيون عن آفتهم تلك، تغيب ألوان المكان الذي كان صلدًا كالماس في قصائد السيّاب، وغدا متشظّيًا محصورًا بين أسود عزيز الحاج وأبيضه. والتشظّي سمة الأرض الواقعة تحت ضربات المحتلّ، وهذا الأخير سهلُ التعيين لدى الفلسطينيين والعراقيين على حدّ سواء.
الأميركيّ محتلًا كثير الورود وفي متناول اليد، في الروايات التي كُتبت بعد عام 2003، يمرّ بثيابه العسكريّة، متمتّعًا بعجرفته، ويدوس الأرض الخضراء للحضارات القديمة، لا مشكلة في هذا، المشكلة أو المفارقة يفرضها سؤالٌ "أسود" عن غيابٍ "آخر" يكاد يكون عامّا لدى الروائيين العراقيين: أين إيران في كلّ هذا السواد؟ ما أثرها في هذا الخراب الذي يبدو لانهائيًا؟ لِم لا يحضر الإيراني؟ ما الاستعارة أو المجاز من وراء غيابه شبه التامّ؟ أثمة لونٌ "عراقيّ" مخفيّ في الأمر؟ إذ ربّما لا يمكن تفسير كلّ ما هو عراقي إلا عبر حضور الألوان أو غيابها. فلو أراد النقد التنزّه صوب الشّعر العراقي، لوقفتْ قصيدةٌ لسركون بولص بالمرصاد، حاملة عدّة الرسم مقاوَمةً : "كلّما ردموا هورًا، كلّما أحرقوا خريطةً / وأزالوا عالمًا من الوجود، بدأ يرسم محمومًا / لوحةً جديدةً تستلهم الأهوار".
لكأنّ السواد والأجواء الكابوسيّة في الأدب العراقي، تقابلهما تلك الألوان القوية المشعّة في لوحات ضياء العزّاوي وجبر علوان مثالًا لا حصرًا. هكذا لا يتفاجأ المرء من وفرة الألوان في لوحات أحمد السوداني، التي تبدو أدنى إلى الكوابيس الملوّنة. الفنّان العراقي سار في طريق كثيرٍ من المثقفين العراقيين؛ المنفى، من بعد أن تتالتْ على أرض الرافدين مصائب كثيرة، حدّ أن القول العربي: "تأبى المصائب أن تأتي فُرادى" يكاد يكون عراقيّا، وسوريًا وفلسطينيًا بالطبع، ها هنا الكلّ في الهمّ شرقُ.
الألوان المشعّة كي نفتح العينين أكثر، لنرى ونتأمّل كيف تتمّ إدانة الحرب. فالناظِرُ إلى لوحات السوداني، تستيقظُ حواسّه وتُستنفر، أمام هذا الكمّ المهول من الشخوص والتراكيب المتآلفة في تكوينٍ هندسي صارم، وفير الألوان. العراق الحاضرُ في هذه الكوابيس الملوّنة ليدين الناظر الحرب، ما قبلها وما بعدها. لا عقاب للناظِر بل لوحة تفتح باب التفكير في بلاد النهرين. العقاب نصيبُ عزيز الحاج، لكأنّ الروائي طرده من الجنّة: "رأى بائع ذرة ورأى بائع فستق، ولم يرَ لون الذرة الصفراء ولم يرَ لون الفستق الأحمر. وحين رفع رأسه مرّة أخرى رأى العالم أسود وأبيض يمتدّ إلى آخر لحظة في حياته".
المساهمون