أهل الفن.. بين الانتصار للمبادئ والنوم على عتبة السلطان

20 نوفمبر 2014
الفنان علي فرزات بعد اعتداء شبيحة بشار الأسد عليه(أ.ف.ب)
+ الخط -

طوال تاريخ البشرية الممتد، مثّلت الفنون والثقافة القدمين اللتين استندت إليهما موجات التنوير والتثوير فى أي مجتمع، فالمثقفون والفنانون جنباً إلى جنب كانوا مصدراً لتثوير المجتمعات وتحطيم الأفكار التقليدية، لكن على الجانب الآخر فإن كثيراً من هؤلاء وجدوا طريقهم بجانب السلطة، فراحوا يبحثون عن منطقة دافئة فى أحضانها إما تجنباً ليدها الباطشة، أو للحصول على مزيد من القوة والنفوذ، وربما كلاهما معاً.

الحاكم، وخصوصاً في بلاد الحكم الشمولي يحرص، دائماً، على أن يكون له رجاله من أهل الفكر والفن، الذين يمتدحون حكمته، إما لاستغلالهم فى تحقيق أهدافه السياسية، أو لمنحه مزيداً من الإحساس بالعظمة، فمغني الأوبرا "يوهانس خيسترز" ذو الأصول الهولندية، كان مطرب هتلر المفضل، وقد ظل يغني حتى بلغ عمره 103 أعوام، لكنه لم يغنِ أمام جمهور منذ عام 1963 بعدما كشف أحد الصحافيين علاقته بالنازية، خصوصاً غناءه في معسكر "داخاو" في بافاريا عام 1941، كذلك كانت أجمل لحظات "ستالين" تلك التى يجلس فيها ليرى لوحة جديدة قد رسمت له، أو فيلماً سينمائياً يصوّره كرفيق فلاديمير لينين وشريكه الأساسى فى الثورة الروسية. أما في العهد الملكي المصري، فقد كان الفنانون والكتّاب يتبارون في امتداح الملك فاروق، محمد حسنين هيكل، الصحافى الناشئ آنذاك، كتب ممتدحاً فاروق فى الذكرى الثامنة لتوليه العرش: (ثماني سنوات وأنت تعمل لهذا الشعب وتخلص له وهو يعمل معك ويخلص لك وستظلان معاً إلى الأبد، ولم تجد مصر ما تحيي به هذا العيد سوى الهتاف باسمك والدعاء لك)، بينما يُحكى أن يوسف وهبي قد حصل على لقب "بك" عام 1944عقب إخراجه فيلم (غرام وانتقام) الذى غنت فيه إسمهان نشيد الأسرة العلوية.

تاريخ الفن والثقافة العربى لقد أصبح معها تماماً حتى سخّر كل منتجه الفني والثقافي لمنافقة الحاكم. لكن ثمّة فروق بين مثقفي وفناني السلطة من عصر لآخر، فبينما كان العهد الناصرى يزخر بأسماء مثل هيكل و"إحسان عبد القدوس" و"عبد الحليم حافظ" وكلهم كانوا صوتاً لتلك السلطة، فإن مثقفي وفناني نظام حسنى مبارك كانوا أقل موهبة وثقافة، فنجد كتّاباً مثل "سمير رجب" و"إبراهيم نافع" و"ممتاز القط" الذي لم يكتب سطراً إلا وكان يحمل امتداحاً للرئيس، بالإضافة إلى فنانين مثل "محمد ثروت" و "عمرو مصطفى". فى تونس أيضاً كان ثمّة فروق بين منظّرى العصر البورقيبي ومثقفيه، وبين نظرائهم في عهد بن علي.

لعل أحد أهم منجزات ثورات الربيع العربي، إضافة إلى إسقاط أصنام السلطة، أنها مثلت غربالاً للأشخاص والأفكار، وخصوصاً من أهل الفن والثقافة الذين انتصروا للسلطة، وساروا فى فلكها عقوداً طويلة، فمع الأيام الأولى لثورة 25 يناير فى مصر بدا الوجه القبيح لمثقفي السلطة وفنانيها، فسخّر هؤلاء أقلامهم وحناجرهم فى محاولة بائسة أخيرة لإنقاذ النظام، فلا أحد ينسى بكاء محمد فؤاد حزناً على ما يحدث لمبارك، ولا بذاءات طلعت زكريا وادعاءاته عن ميدان التحرير، الذي "تقام فيه حفلات الجنس الجماعي وشرب المخدرات"، ولا نداءات سماح أنور المتكررة بحرق الميدان بمن فيه، كذلك حسن يوسف الذي حرص على زيارة مبارك حتى تلك اللحظة، بالإضافة إلى عمرو مصطفى، المدافع الأول عن مبارك، والمهاجم الأبرز لثورة يناير، ولا يمكن أن تخلو مثل تلك القائمة من فنان مثل عادل إمام، الذي كان أول من طالب بتوريث جمال مبارك الحكم.

والثورة السورية جاءت هي الأخرى كاشفة، فبينما كانت مليشيات الأسد تدك بيوت السوريين وتقتل الآلاف، كان كثير من الفنانين يدافعون عن النظام المجرم، وبدوا حتى "ملكيين أكثر من الملك"، على رأسهم بالطبع رغدة التى لم تفوّت مناسبة إلا وهاجمت الثورة السورية، تلك القائمة ضمت، أيضاً، فنانين مثل جمال سليمان، دريد لحام، باسل خياط، باسم ياخور، عباس النورى، عابد فهد..

أما في تونس لم يختلف الحال كثيراً، فمعظم الفنانين كانوا لا يتوانون عن مديح بن على وزوجته، بل طالبه كثير منهم في بيان وقعوه بالترشح لانتخابات رئاسية جديدة عام 2010، ضمت القائمة فنانين معروفين مثل صابر الرباعي ولطفي بوشناق ولطيفة، التي كانت تحرص على إحياء حفلات طلبة الحزب الحاكم فى الجامعة التونسية، لكن بعد اندلاع الثورة سرعان ما أدركوا أن بن علي قد ذهب بلا رجعة وأن ثمّة عهداً جديداً يجب أن يسيروا فى ركبه.

يقضي المثقف عمراً طويلاً فى القراءة والبحث والإطلاع، لكن اللحظة التى يبدأ فيها بالسير فى ركب السلطة هى بمثابة لحظة موته، فإذا كان تاريخنا حافلاً بمثقفين وفنانين نافقوا الحاكم، فإن ثمة آخرين انتصروا لمبادئهم، وناضلوا بفنهم، وارتضوا حياة صعبة بين التضييق والاعتقال أحياناً دون أن ينال ذلك منهم، ولا من قناعاتهم، هؤلاء فقط هم من يحملون راية التنوير، بينما الآخرون إلى زوال.

المساهمون