حول تفاحة جامعة دمشق..

30 أكتوبر 2014
عمل لـِ(راني بلانيتياني)
+ الخط -

ليس ابتكاراً تجديديَّاً على صعيد فهم الشأن السوري، الحديثُ عن عمق اختراق السّلطة السوريّة لمُؤسَّسات الدولة المتمَثّلة هنا في مثالنا بجامعة دمشق. النصوص التي كتبت في هذا الشّأن كافية ووافية. لذلك نورد هاتين الشهادتين.

من دم المريض إلى دم الضحيّة

في بناء العمادة في كليّة الطب البشري في جامعة دمشق، ثمّة غرفة تعذيب، كانت قبل انطلاق الثورة السوريّة غرفةً خاصّة بالوكيل العلمي للجامعة، حوّلها "الاتّحاد الوطني لطلبة سورية" منذ انطلاق الثورة السوريّة إلى مكانٍ لترويع الطلاب. الغُرفةُ تقعُ مقابل غرفة الوكيل الإداري لكليّة الطبّ البشري، الذي يديرُ شؤون الجامعة، كلَّ صباح، على وقع أصوات الاستغاثات الخارجة من أعْمَاق الطلّاب في الغرفة المُظلمة.

عندما اعْتقِلْتُ تم اقتيادي إلى تلك الغرفة، اقتحمَ المكان عميدُ الكليّة، وهو جراح عصبيَّة مشهور تخرَّج من ألمانيا، يتميَّز بهواية مَضغِ العلكة، وبنظرة استعلائيَّة مُهينة تجمعُ ما بين الاستغباء العلمي والاحتقار الطبقي، تفرَّج الجراحُ قليلاً على مَشهدِ الطلاب الغارقين في دمائهم، صمت قليلاً وقال: " لا تنسوا تمسحوا الدم من الغرفة".

تفاحة آدم

زميلان في الجامعة، يقيمان في غُرفةٍ صغيرة من غرف الوحدة الأولى في المدينة الجامعيّة في دمشق، كانت تربطني بأحدهم علاقةُ صداقةٍ مقبولة، زرتُ غرفتهم الصغيرة بعد الانتهاء من الدوام الجامعي، في أحد أيام شتاءات عام 2010، كنا جالسين أنا وصديقي نشرب الشاي المُعدّ على سخَّانات تعيسة، هي رسميّاً ممنوعة الاستخدام في الجامعة. دخل الغرفة شريكُه في السّكن، شابٌّ قليلُ الكلام، مع نفحة غموضٍ هادئة، يبتعد عن الموضة في ملبسه، ويستخدمُ كلماتٍ مُختصرة لا تفسَحُ المجال بنفاذِ الحديث من السّطح العام إلى العُمق الشخصي، أخرج تفّاحة من البراد الصغير، قشّرها وعصر القشرة في رأس الأركيلة من أجل النكهة كما قال، قَطَّع التفَّاحة وقال لي بأنَّها من محصول هذه السنة في الساحل السوري، وانتهى الحديث بيننا.

بعد انطلاق حركة التغيير السياسي- الاجتماعي في سورية، تحوَّل الشخص صاحِب التفاحة المُقشَّرة إلى عُنصر نشيطٍ وفعّال وخطير في منظمة "الاتحاد الوطني لطلبة سورية"، يديرُ مجموعات الطلّاب من أجلِ قمعِ نواة أيّ تحرُّك احتجاجي سياسي طلابي، ويتولَّى ملفَّات رقَابة الجميع، من أساتِذة الجامعة إلى الموظّفين الإداريين إلى الطلّاب، يضعُ مُسدَّسا على خاصرته في ساحة الجامعة. تحول هذا الشخص فجأة من شاب بعيد عن الفضاء الجامعي العام، ومنهمكٍ في شأنه الذاتي، إلى شخص يلعب دور ضابط أمنٍ بكلّ براعة وعنف.

قبيل اعتقالي كنت مع صديق نتحدَّث عن كتاب ياسين الحاج صالح "بالخلاص يا شباب"، لقد استطاعت إحدى المكتبات الشهيرة في دمشق أن تُؤمَّن لي الكتاب الممنوع، وهو كتاب بديع يتحدّث كاتبه عن تجربته في السجون السورية. ودّعتُ صديقي واتّجهتُ نحو باب الخروج من الجامعة، ربتَ أحدهُم على كتفيَّ، دوران سريع للرأس كان كافيّاً لأعلم بأني مع مضيف التفاحة، طلب منّي هويتي الشخصيّة وبطاقتي الجامعيَة، أخذني إلى الغرفة السوداء، مع مجموعة من الشباب، كلهم زملائي في الجامعة، بعضهم كنا نتمرن في النادي الرياضي الصناعي نفسه، وبعضهم كنا نشجع سوية فريق ريال مدريد في مقاصف الجامعة.

وبسبب خبرته المتكررة في التعذيب تكوّنت رؤيته الخاصة الاجتهادية في هذا الصدد، الحس الأمني مع المعرفة الطبيَّة، أصبح يدرك أن الألم الناتج من تفاعل الجرح النازف مع الصعقة الكهربائية يكون مُهيناً وتأديبيّاً أكثر، أخرج سكّيناً من جيبهِ وأنا مُستلقٍ على الأرض، غَرسَ السكّين في قدمي اليمنى بهدوء. وكان يقرب رأس العصا الكهربائية منها ويشعلها.

المساهمون