الصيد

05 يوليو 2016
من أعمال سينياك(Getty)
+ الخط -
كان مفعماً بالنشاط والحيوية وهو يخرج من دار السينما، رغم أنه كان قد أنفق آخر ما في جيبه من نقود على أجرة المواصلات إلى المدينة، بالذهاب والعودة وحضور هذا الفيلم الذي قرأ عنه في الجريدة؛ "فورست غامب". كانت قصة الفيلم قوية ومشجعة عن شاب تحدى ظروفه الشخصية ومشاكلة ليصبح إنسانًا ناجحًا وغنيًا.
وفي طريق العودة الى بلدته، كان يتذكر بعض أحداث الفيلم، قال في نفسه: "لا .. هو لم يكن متخلفاً عقلياً، هو فقط من ذوي الاحتياجات الخاصة .. هكذا يسمونهم". لكنه عاد وفكّر قليلاً: ".. لكنه، رغم ذلك لم يكن بحاجة لأحد!!".
حين وصل إلى بيت أهله في تلك البلدة النائية عند أطراف الصحراء، وجد والده ووالدته وأخاه الأكبر جميعًا يجلسون فوق نهاية الصبّة الأسمنتية أمام البيت، مدلّين بأرجلهم إلى الأسفل. لقد رآهم بالأمس في الوضعية نفسها، لكنه لم يلق بالًا، كانوا يجلسون بجانب بعضًا البعض بصف واحد أسفل عريشة متداعية، وقد أداروا ظهورهم لساحة البيت، وكانت وجوهم تجاه الصحراء الممتدة .. وكان كل واحد منهم يحمل عصا بيده.
حين رآهم هكذا، تخيّل أن شعر أبيه الأشعث يبدو كبقايا رماد لسهرة أقيمت في ليلة سابقة، زاد من ذلك الخيال لديه، أن أباه ربط شماغه على خصره. والدته أيضاً بدت له بثوبها التقليدي
الفضفاض الخالي من أية زركشة، كثقب أسود غريب في ذلك المكان. أما أخوه فقد بدا له كجندي قد خرج لتوّه من حرب خاسرة، بشبشبٍ مقطوعة تركها خلف ظهره مباشرة، وها هو الآن ظهره منحنٍ على عصا بيده إلى جوار أبيه وأمه.
أخوه كان قد عاد منذ مدة ليعيش معهم من جديد، بعدما خسر عمله ولم يعد قادراً على دفع أجرة الشقة التي يعيش فيها مع زوجته وأولاده الثلاثة.. وفوق ذلك، زوجته طلبت الطلاق، ورفضت أن تأتي لتعيش معه في غرفة في بيت أهله.

اقترب منهم هذه المرة وسألهم: "ماذا تفعلون؟". لكن، بدا كأن أحدا لم يسمعه.. فكرر السؤال: "ماذا تفعلون أيها العجائز؟ ماذا حدث؟ هل أصبتم بالصمم؟". لم تصدر عن أي منهم حركة تنمّ عن ردة فعل لما قاله .. لكن والده، وبصوت خافت، أجابه:

- ششش، اخفض صوتك. ألا ترى؟ نحن نصطاد السمك أيها الأحمق.
- سمك! .. قلت سمك؟ ها .. هاهاها
لم يتمالك نفسه من الضحك. ضحك كثيرًا، حتى كاد يسقط على ظهره، كان ينظر إليهم من ظهورهم ممسكًا كل منهم بعصا بيده .. ويقهقه عاليًا وتكاد عيناه تدمعان من الضحك.. أشار إليهم من بين دموعه:
- تصيدون السمك من الصحراء.
وفجأة، توقف عن الضحك حين شعر أن لا رد فعل صدر من أي منهم. تمتم في نفسه: "إنهم يبدون جادين .. أو إنهم أصبحوا مجانين".
اقترب منهم، إلى حافة الساحة الأسمنتية، ونظر إلى حيث تهبط الخيوط المربوطة بعصّيهم .. وجدها تلامس الرمال في الأسفل. رفع عينيه إلى الأفق، ورأى الصحراء قد بدأت تزحف أكثر مما قبل، ولاحظ تلالًا من الكثبان الرملية، قد تكوّنت قريباً من بيتهم، لم يرَ مثلها من قبل. تمتم في نفسه: "سامحك الله يا جدّي، أنت من جعلتنا نسكن في هذا المكان الموحش عند مشارف الصحراء".
كان يتابع بنظره الرمال في المدى وهي تتطاير بفعل ريح خفيفة تهبّ، ثم نظر إليهم، كانت ما تزال تعلو وجوههم ملامح الصبر والعزيمة والمثابرة. عندها قرر أن يتركهم لحالهم ويدخل إلى البيت ليبحث عن شيء يأكله.
بقي الأب والأم والأخ الأكبر جالسين فوق حافة الصبّة الإسمنتية، مدلّين بأرجلهم، وممسكين بعصّيهم على أنها صنارات صيد، ومنتظرين أن يصطادوا السمك. في الأثناء، رفع الأب عينيه صوب الأفق، وبدا له البحر هائجاً قليلاً، وكان يرى أمواجًا مرتفعة صارت قريبة، لم يرَ مثلها من قبل.

*قاص من الأردن
المساهمون