سبورة مِس هدى

11 يناير 2016
لوحة للفنان إغناسيو إوزيكه (Getty)
+ الخط -
أحفظ مكاني في الطابور الصباحي في ساحة المدرسة، فأكون آخر الداخلين إلى الغرفة الصفية المعتمة. وأعرف مقعدي في الزاوية فأمشي إليه من دون أن أنظر إلى أحد. تقف مس هدى في منتصف السبورة وترسم خطاً أفقياً مستقيماً، ترسمه من دون مسطرة؛ تمدّ ذراعها بالطبشورة البيضاء من أول السبورة إلى آخرها، وتعيد الكرّة ثلاث مرات بحركة ثابتة من ذراعها الطويلة متعامدة مع محور الكتف من دون أن تخطو أو يميل جسدها. شعرها من الخلف قصير مصبوغ بلون خمري، ومن أذنيها يتدلّى قرطان فضيان كبيران، وبواسطتهما تراقبني وأنا أحاول أن أكتب الحروف الإنجليزية المتشابكة.

تمسك مس هدى طبشورة حمراء بين أصابعها، وتثبّت رأسها على نقطة في السطر الأول، ثم تهبط وتصعد بها بين السطور الأربعة المتوازية، ببطْء وهدوء، ولا تبعد الطبشورة عن السبورة إلا بعد الانتهاء من رسم الكلمة، وتترك مسافة محسوبة، ثم تعيد رسم الكلمة نفسها خمس مرات، وبعد أن تنتهي تقرأها بخمس طرق مختلفة.

- "كان يو ريد وات يو روت؟". تسألني مس هدى وهي تحدّق في الفوضى الهائلة التي صنعتها في دفتري، وتقبض بأصابعها على خشبتيّ المقعد وتحاصرني في الزاوية.
- "إز ذس إنغلش؟". تسألني مس هدى، فألوذ بالصمت وأبتسم بسبب الخجل، فتستفزّها ابتسامتي وتكرر السؤال ثلاث مرات بنبرة متصاعدة في كلّ مرة، وتتأرجح العينان المتدليتان من شحمتي أذنيها.

أحفظ حروف اللغة الإنجليزية صوتاً وشكلاً، وأستطيع أن أتهجأها وأكتبها منفردة ومجتمعة في كلمات، ولكني لا أستطيع أن أقرأها أو أكتبها متشابكة كما تفعل مس هدى على السبورة. هذا النوع من الرسم لا أتقنه، وأفضل أن أرسم أعين مس هدى؛ الثنتين الكبيرتين الثاقبتين في منتصف وجهها، والثنتين الراقصتين حوله، أو أن أرسم أصابعها الطويلة المدورة المطلية الأظافر بالأحمر، أو ذراعها الزمبركية التي تمتد من أول السبورة حتى آخرها.

اقرأ أيضًا : عودة السيدة

ترتفع أصوات البنات والأولاد في مقاعدهم، وأنتظر أن تبتعد عني مس هدى، لكنها تقطع شغبهم بنظرة واحدة من عينيها وتجلس بجانبي وتمسك دفتري وتقلّب صفحاته وأنا أراقب يديها وأفكر بالأشياء الكثيرة التي تستطيع أن تفعلها هذه الأصابع غير تعقيد حياتي.

- "أوه ماي غاد! يو آر يوزلس". تقول مس هدى وهي تحدّق في صفحات دفتري.

تحفظ أطراف أصابعي الوخزات اللذيذة من ملامسة أوراق أشجار الكينا الوارفة الغصون، أمد يدي من نافذة الباص وأتركها ترتطم بالغصون المتداعية فوق الأسفلت من الجزيرة الوسطية في الشارع، وأشعر بالدغدغة تسري في جسدي وبالهواء الصيفي يجفف العرق بين منابت أصابعي ويتخلل ملابسي عبر كُمّ قميصي المدرسي، ويداعب صدري وعنقي ووجهي وشعري الأجعد.

يرى أبو أنطون يدي الممدودة خارج النافذة من خلال المرآة الجانبية، فيصيح من مقعده خلف المقود:
- "دخّل يدك جوّا يا بو سمرة". ويرسل إليّ نظرة غاضبة من عينيه الضاحكتين عبر المرآة الأمامية، ويعود ليثبت ناظريه على الطريق الممتدة أمامه.

أخفي جسمي كله خلف ظهر المقعد، ثم أرفع رأسي قليلاً وأرقب شاربه الأبيض الكثيف عبر المرآة. يتناوب الأولاد والبنات على مد أيديهم من النافذة ويستمرّ أبو أنطون في مناداتهم بأسمائهم التي يعرفها من شكل أصابعهم. وكلما سمع واحد منهم اسمه يرد بنفس العبارة:

- "إنها ليست يدي، إنها يد "توم". ويشيرون بأيدهم نحوي، ثم يكررون جميعاً بصوت واحد فيما يشبه الأغنية:
- "توم" يده طويلة، "توم" يده طويلة.

وعندما يتعب أبو أنطون من الصراخ يستجير بالمعلمة الجالسة خلفه، لكنّ مس هدى مكبّة على كومة الدفاتر المدرسية وبين أصابعها قلم أحمر تواصل بواسطته مهمتها المقدسة في تعقيد الحروف التي رسمتها أصابع بريئة لا ترغب بالمشي على حذافير الأسطر المستقيمة.

كومة الدفاتر على مقعد مس هدى ليس بينها دفتري، لقد مزقتْ صفحاته ووزعتها على المعلمات، واحتفظت لنفسها بالصفحة المزدوجة في منتصفه التي تحمل صورتها.
دلالات
المساهمون