أسئلة غوته بلا إجابات

29 سبتمبر 2015
لوحة للفنان الإسباني فرانشيسكو دي غويا (Getty)
+ الخط -
"أسيراً لأحلام دفينة، كان فيرتر. لهذا انتحر" بهذه الكلمات أجاب يوهان فون غوته (1749/ 1832) رداً على السؤال الذي كثيراً ما طُرح عليه : لماذا انتحر فيرتر بطل روايته الشهيرة "عذابات الشاب فيرتر"؟ ولماذا لم يحاول مرة أخرى وأخرى؟
"ولماذا عليه أن يحاول"؟ يتابع غوته، في محاولة شيقة لتفسيرالأسباب التي دفعت بالشاب العشريني، إثر حب بلا أمل، إلى الانتحار. فقد وصل فيرتر إلى : "لحظة الإمساك الفعلي بأطراف الحقيقة. لم يعد لديه، بعد تحول أحلامه إلى كوابيس في الواقع، ما يفعله هنا.. فرحل".
أيعني هذا، بحسب غوته، أن إدراك الحقيقة الوجودية الفادحة تلك، ضياع الأمل في حالة فيرتر، قد يقود إلى اختيار الموت حلا ومخرجاً؟ أينبغي على الكائن البشري الوقوف، حين اتضاح خشونة الواقع وتلاشي الأحلام الدفينة، أمام خيارات لئيمة وصارمة: العزلة مثلًا أو الكآبة، بمعناها المرضي، ثم الموت؟ ألا تقترح الحياة حلولاً أخرى لهذا الوجع؟
لا يقدم غوته تصورات دقيقة حول هذه الفرضية الأخيرة. ولم يذهب عميقاً حينها، إثر صدور روايته في العام 1774. وما خلّفته من سجال صارخ في المجتمع الألماني، في محاولة استقصاء دوافع بطله، ولا مساءلة ظاهرة الانتحار ذاتها : "لدي أسئلة" كان غوته يقول، و"لا أجوبة لديّ على الإطلاق". تاركاً للنقّاد والقراء، كما علماء الاجتماع أيضاً، حرية البحث عن الأسباب غير المعلنة لانتحار فيرتر. وهو الأمر الذي سيأخذ ابعاداً مشوّقة وإشكالية جديدة إثر الارتفاع الملحوظ في أعداد المنتحرين الذين تم تسجيل حالاتهم آنذاك، بعد صدور الرواية وانتشارها.
انتقل فيرتر من بطل في رواية جميلة إلى نموذج يُحتذى، وإلى ظاهرة اجتماعية ستدفع السلطات في مدينة لايبزغ إلى منع تداول رواية غوته أو إعادة نشرها (مُنعت الرواية بين عامي 1775 - 1825). كما ستدفع العديد من علماء النفس والاجتماع، حينها، إلى رفع الدراسات الخاصة بظاهرة الانتحار عموماً إلى مداها البحثي الأقصى. ذلك الذي سيتواصل وعلى نحو مكثف حتى عام 1920، حينما نشر سيغموند فرويد (1856 / 1939) كتابه البديع : "ما وراء مبدأ اللذة" الذي سلّط عبره الضوء، من بين ثيمات متنوعة أخرى، على الأسباب الفعلية التي تجعل المرء قادراً على التضحية بنفسه، بحثاً عن خلاص مرجو لأوجاعها .

اقرأ أيضاً: أزرق جورج تراكل

وضع فرويد إصبعه، في الكتاب المذكور، على الجرح الذي فتحه غوته تماماً. لتبدأ تحليلاته وخلاصاته، مذّاك وإلى اليوم، باحتلال المرتبة الأوّلى في دراسات علم النفس الخاصة بقراءة ظاهرة الانتحار وتحليل أسبابها : "تضطرب الأنا وتحتد تحت ثقل متاعبها"، يقول فرويد. ويتابع "فتبتعد عن الواقع المرئي أكثر. ولا ترى في ذلك الواقع غير دافع لعزلتها وأحساسها باليأس. وهي الأعراض الأولية للكآبة". كئيباً "كان فيرتر غوته، لهذا انتحر". يضيف فرويد في موقع آخر.
في عام 1974، وبعد سنوات طويلة من البحث الدقيق، توصل عالم النفس الأميركي ديفيد فيليبس إلى اجتراح منهج دراسي غير مسبوق في علوم النفس الفردية، كما الجمعية، المرتبطة بأعراض الكآبة الحادة التي تقود صاحبها، من ناحية إلى الانتحار، وتخلق من ناحية ثانية، حالة اجتماعية قابلة للفكرة ومرحبة بها ومستعدة لتقليدها.
سيطلق فيليبس على أطروحته تلك اسماً يناسبها تماماً : "تأثير فيرتر". فقد وجد العالم الأميركي في الأمثلة القديمة والحديثة: دلالات كبيرة على أن انتحار شخص يتمتع بشهرة ما عند الجمهور؛ كاتب، فنان، سياسي، لا بدّ وأن يخلق موجات انتحار عامة، وارتفاعًا حادًا لحالات الانتحار، بعبارة أوضح. كتلك التي عرفتها ألمانيا بعد انتشار رواية غوته الشهيرة.
اليوم، بعد مرور أكثر من قرنين على صدورها، وعقود أربعة على استخدام ديفيد فيليبس لعبارة "تأثير فيرتر"، كمنهج سيكيولوجي مستقل، تعود السجالات حول ظاهرة الانتحار لتحتل موقعاً متقدماً في الصحافة الثقافية الاوروبية عموماً وفي الألمانية تحديداً. فقد وفّر انتحار الكاتب الهولندي المعروف يوست زفاخرمان (1963- 2015) مؤخراً، فرصة جديدة تعيد إلى الأسئلة الوجودية الكلاسيكية بريقها الأثير : لماذا ينتحر الكاتب؟ وما كنه اللحظة الاستثنائية التي تدفع ذلك الكائن إلى طقس لا يمكن تصويب نتائجه مرة أخرى؛ الموت؟ أيكفي الاحساس المدمر بخيبة الأمل، مثلاً، ليكون سبباً منطقيًا وحكيمًا، لقرار مماثل؟ وهل تصح الكآبة التي شرحها فرويد كقاعدة صلبة لتعريف دوافع الانتحار، أتصح دائمًا كوسيلة تُفسر الحالة بها؟
قد يصح كل ما تمّ ذكره، وقد تخفي النفس البشرية، إلى الآن، ما لم تتمكن علوم النفس ولا الفنون قاطبة، من الوصول إليه وتفكيك ألغازه المتشابكة. تلك الألغاز التي قامت تحت ظلّها الفنون وعلوم النفس، كما كُتبت من وحيها الأعمال الأدبية العظيمة التي انشغلت عميقاً بالبحث عن مطارح أليفة للقاء ودود بين النفس ومحيطها الثقيل. لكن الحقيقة الثابتة والمؤلمة هي في قدرة هذه النفس البشرية على اجتراح عوالم غرائبية تقودها، في اللحظة الأعلى غموضاً، إلى سلوكيات لا يمكن تفسيرها على النحو الصحيح دائماً : الذهاب طواعية إلى الموت.إنها العوالم ذاتها التي أخذت الشاب الوديع فيرتر في رائعة غوته إلى موته العبثي، وهي ذاتها التي تجعل من تأثيره الأبدي لعنة لا شفاء منها، ولا أمل بالشفاء.
المساهمون