ملاحظات نقدية عامة عن "السنّيد" في صناعة السينما العربية

15 سبتمبر 2015
الممثلة المصرية عبلة كامل
+ الخط -
تُشكّل المفردة المصرية المستَخدَمة في صناعة السينما، "السنّيد"، أحد التعابير الشعبية الجميلة، التي تحمل معنى راقياً في الاشتغال التمثيليّ، السينمائيّ والتلفزيونيّ والمسرحيّ. في لغة النقد، هناك تعبير "بارد"، له جوائز ممنوحة لعاملين فيه من قِبَل مهرجانات دولية أو أكاديميات أجنبية، تحتلّ مكانة رفيعة المستوى في المشهد العام للفن السابع: "الدور الثاني". تعبيرٌ ينسحب على التمثيلين الرجالي والنسائي، اللذين لهما جائزتين منفصلتين، تُكرِّمان من يستحقّهما ممن يُمثّلهما، تماماً كتكريماتٍ أخرى مختصّة بمهنٍ فنية وتقنية ودرامية مختلفة.

مفردة أجمل

المفردة المصرية أجمل، لغةً ونُطقاً ومعنى. فهي تتجاوز فعل التمثيل المتعلّق بالدور الثاني، الآتي مباشرة بعد دور البطولة أو الدور الأوّل، وتبلغ عمقاً إنسانياً وثقافياً وإبداعياً يضع مُشتغله في مرتبة متوازية والدور الأوّل أحياناً كثيرة، على مستوى الأداء وتقنياته وفنّيته وجمالياته، ويظهر هو ـ كدور ـ بمثابة فعل إبداعي لا يُمكن لممثلي الدور الأول العمل كثيراً من دونه. "السنّيد" تعبير متأتٍ من فعلي "سَنَد" و"يسند"، أي أن هناك من يُسند آخر، قد يكون "أعلى" مرتبة تمثيلية منه في المشروع السينمائي، كي يتوصّل هذا الآخر إلى تأدية أفضل للشخصية المطلوب منه تقديمها أمام الكاميرا، أو على خشبة المسرح. يُمكن الاسترسال في تفسيرات متفرّقة، والقول إن مفردة "سنّيد" تمرّ في تحوّلات "لغوية" قليلة، لتُصبح لاحقاً أقرب إلى المساندة. فالـ"سنّيد" هو من يُساند زميله في المهنة، وإن يكن الزميل مطالباً بتأدية الدور الأساسيّ الرئيسيّ الأول. تماماً كما تُساند الشخصية الثانية زميلتها الشخصية الأولى في مساراتها الدرامية والفنية والجمالية المختلفة، في السياقات المختلفة للصنيع الفني.
لا شكّ في أن أنماطاً سينمائية مختلفة، في الشرق والغرب معاً، لا تهتمّ بالتصنيفات الدقيقة هذه. أنماطٌ تتحرّر من التقليد الكلاسيكي العام في تحقيق المشاريع السينمائية، التي تكون غالباً أقرب إلى "سينما مستقلّة"، أو "سينما المؤلّف"، أو سينما تحاول أن تصنع من الصورة واللغة المعتمدة في تركيب الصورة عملاً متكاملاً يساوي بين الممثلين/ الأدوار، واضعاً إياهم جميعهم في مراتب متقدّمة من الأداء. فأن يُشارك عددٌ من "نجوم" الصفّ الأول في السينما المصرية مثلاً، كعادل إمام ونور الشريف ويُسرا إلى جانب "نجوم" لاحقين بهم أمثال خالد صالح وخالد الصاوي وأحمد راتب وهند صبري وغيرهم (ولكلّ واحد من هؤلاء نجوميته الخاصة أيضاً)، في فيلم واحد هو "عمارة يعقوبيان" (2006)، لمروان حامد، دليلٌ على النمط هذا في مقاربة الشخصيات، وفي التساوي بين الأدوار، إذ لم يعد هناك دورٌ أول أو دورٌ ثان، بقدر ما تتساوى الأدوار بفضل التساوي الدرامي بين الشخصيات وأدوارها في صلب الحكاية، وحالاتها في المسارات الدرامية كلّها.

حاجة

لكن، في مقابل هذا، لا تزال صناعة السينما محتاجة إلى الدور الثاني، بدليل أن لائحة "أوسكار"، التي تمنحها سنوياً "أكاديمية الفنون والعلوم السينمائية" في لوس أنجلس، تُخصّص جائزتين اثنتين في فئتي أفضل "دورين ثانيين" للرجال والنساء معاً. بالإضافة إلى جوائز أخرى، كـ"سيزار" الفرنسية مثلاً. ناهيك عن مهرجانات مهتمّة بهذا الجانب، وراغبة في تكريم من يراه أعضاء لجان التحكيم مستحقّاً إياها عن دوره/ ها في هذا الفيلم أو ذاك. فمهما تستطيع أنماط الاشتغالات السينمائية الحديثة والمتحرّرة التخلّص من بعض "قواعد" الفعل السينمائي، إلاّ أن للـ"سنّيد" حضوراً أساسياً وفاعلاً، يكاد يستحيل تغييبه في معظم الإنتاجات السينمائية.
ممثلون وممثلات عديدون يبرعون في تأدية أدوار "السنّيد"، إلى درجة أن نقّاداً متنوّعي الاتجاهات والأساليب النقدية والتحليلية يجمعون على أن هؤلاء يظهرون، أحياناً كثيرة، بشكل أهمّ وأفضل من ممثلي الأدوار الأولى على مستوى الأداء/ التمثيل. فالتمثيل يبقى تمثيلاً له أصوله وقواعده وثقافته، إن يكن دوراً أولاً أو ثانياً، ويتطلّب الالتزام بالشروط الفنية والدرامية والتقنية للأداء كي ينجح ويتفوّق، ويحتاج إلى حيوية وحماسة إبداعيتين لتقديم الدور/ الشخصية بما يتلاءم وطبيعتهما ومساراتهما في السياق الدرامي. التمثيل تمثيلٌ، وعلى الممثل، المطلوب منه تأدية دور أول أو ثان أو عاشر، أن يُحقّق الشرط الأدائي/ التمثيلي، بحسب رؤية النصّ المكتوب، وتصوّرات المخرج، وملاحظات المُصوّر، والحاجات كلّها المتعلّقة بفعل التمثيل. هذا يعني أن الأدوار/ الشخصيات متساوية في أولويات التمثيل، وفي الوقت نفسه تختلف مواقعها في البناء الدرامي للحبكة، فتُصبح هذه الشخصية أولى، وتلك الشخصية ثانية، بالإضافة إلى أدوار/ شخصيات تكون عابرة، لكن لها حضوراً ضرورياً ومفصلياً في السياق الدرامي العام.
لكن، هل يعني هذا كلّه أن الحاجة إلى أدوار "السنّيد" نابعةٌ من ضرورة وجود "نجوم الصفّ الأول"، المحتاجين إلى من يُسندهم/ يُساندهم في مساراتهم الدرامية والإنسانية والجمالية في سياقات الأحداث؟ أولاً، هناك "نجومٌ" حقيقيون في الأدوار الثانية. هذا مؤكّدٌ، لأن ممثلين كثيرين يمضون حيواتهم الفنية وهم يؤدّون أدواراً ثانية، فيُصبحون نجوماً فيها وبسببها لشدّة براعتهم في امتلاك الحساسيات الفنية المطلوبة للتمثيل. ثانياً، يحتاج الدور الثاني إلى "تواضع" صادق في تعاطي الممثلين معه، ما يعني احترامهم أصول المهنة، وإخلاصهم لمعنى التمثيل، وتفانيهم في تأدية الأدوار/ الشخصيات. هذا ما لا يُعثَر عليه في أعمال تلفزيونية وأفلام سينمائية لبنانية تجارية استهلاكية، لأن الغالبية الساحقة من الممثلين تتعامل مع ذاتها والآخرين بصفتها "نجوم صفّ أول" فقط لا غير. علماً أن تقنية التمثيل السينمائي اللبناني لم تستطع، لغاية اليوم، تشكيل ممثلين سينمائيين حرفيين (من دون التوقّف النقدي عند أساليب تمثيلهم كلّها، وهي أساليب محتاجة إلى تأهيل جذري غالباً كي تبلغ مرتبة الفعل الأدائي السوي)، في مقابل ممثلين لامعين بتأديتهم أدواراً سينمائية مختلفة، بعيداً عن الاستقطاب الحاصل بين الدورين الأول والثاني.

اقرأ أيضاً: ميشال خليفي كسر محرّمات الغوص في المجتمع الفلسطيني

تنويعات

هذا على نقيض ما يحصل في مصر مثلاً، إذ تحتاج الصناعة السينمائية المتكاملة هناك إلى مراتب في الأدوار، علماً أن ممثلين عديدين يُتقنون، إلى حدود الإدهاش الجميل، كيفية تأدية الأدوار الثانية بحرفية واضحة ومتينة، لشدّة إتّقانهم أصول التمثيل ومتاهته. فقبل أعوام مديدة، يُشكّل حسن حسني وعبلة كامل أفضل نموذجين لتمثيل الدور الثاني، قبل أن ينغمسا في كثرة الأعمال المتنوّعة، بعيداً عن انتقاء النوعية الأفضل للمشاريع، ما يؤدّي بهما إلى استسهال الأداء. من دون تناسي بعض الأدوار القليلة جداً، التي تتفوّق فيها عبلة كامل على نفسها، بمشاركتها التمثيلية مثلاً في "عرق البلح" (1997)، لرضوان الكاشف، إذ تؤدّي واحداً من أجمل أدوارها السينمائية الثانية، كاشفة عن امتلاكها الرائع أدوات تعبير جسدي وانفعالي مثيرة لمتعة العين والروح معاً.
بالإضافة إليهما، هناك نماذج آسرة في تأدية الدور الثاني، كأحمد راتب وأحمد بدير مثلاً، وكالراحل نجاح الموجي. فالأول يُشارك في صناعة المشهد بأوصافه المطلوبة كلّها، موغلاً في تشكيل أدوات تعبيره التمثيلي من دون التقوقع في صفة الدور الثاني، لأن الهمّ الأساسيّ عنده كامنٌ في الأداء لا في المرتبة. تماماً كما يفعل بدير والموجي مراراً وتكراراً، وإن يتغلّب الموجي على بدير في أكثر من دور وفيلم. معهم، يُصبح الأداء متعة للتمثيل والمُشاهدة معاً، لأنهم يخرجون من فرضية أن الدور هذا هو دور ثانٍ، كي ينجحوا أكثر فأكثر في تقنيات الأداء، كما في روحه وفضاءاته ومتطلّباته الفنية.
السينما الفلسطينية تحاول إرساء بُنى ثابتة لصناعة تتناول مسائل الفرد وحكاياته وأحواله، وسط جماعته أو في علاقته بذاته. ممثلون يأتون إلى السينما من دراسة أو من خارجها، ويُقدّمون أدواراً يصعب تصنيف مراتبها غالباً، ويرسمون شخصياتهم وفقاً لمرايا تكشف وتبوح وتروي حالات وانفعالات وقصص. هذا كلّه بعيداً عن ثنائية الأول والثاني، إذ تبدو هذه السينما مهمومة بصقل مواهب أدائية تؤشّر إلى ما هو أفضل وأهمّ لاحقاً، وبدعم حِرَفية تمثيلية تليق بالناس وخبرياتهم.
لن يكون سهلاً التمدّد جغرافياً على المساحة السينمائية العربية لتبيان الحدود الفاصلة بين الدورين السينمائيين الأول والثاني، وإن ينشغل مخرجون كثيرون بإيجاد ممثلين يُلائمون الدورين هذين وفقاً لتصوّراتهم السينمائية. فجديد الإنتاج السينمائيّ العربيّ، المغاربيّ واللبناني والسوريّ والفلسطيني تحديداً، من دون تناسي المصريّ طبعاً، يمتلك طموحات جمالية وفنية وثقافية ودرامية وإنسانية وتأمّلية وبصرية أعمق من وضع حواجز بين الأدوار، لأن الأدوار كلّها تتبوأ أولوية أساسية في اشتغالاتهم وهمومهم.

(كاتب لبناني)
المساهمون