ميشيل خليفي.. أنا مع ثقافة الفقراء ضدّ فقر الثقافة

28 يوليو 2015
+ الخط -
ليس سرًّا أن السينمائي الفلسطيني ميشيل خليفي، من روّاد السينما الفلسطينية. إذ إن فيلمه "عرس الجليل" فاز بجوائز عالمية عام 1987، واضعًا بذلك السينما الفلسطينية على الخارطة السينمائية العالمية. وهنا حوار طويل عن تجربته السينمائية الممتدة لما يزيد عن خمسة وثلاثين عامًا.

* أنت من مواليد مدينة الناصرة في فلسطين المحتلّة. كيف كانت طفولتك في تلك المدينة التي لم تكن تحوي إلا صالتين للسينما؛ "ديانا" و"أمبير"؟

كانت الناصرة في طفولتي أقرب إلى "الغيتو" المسكّر، إذ لم نكن نستطيع الخروج منها إلا بتصريح عسكري. كانت الناصرة رائعة، لأن العالم كلّه بالنسبة لي كان موجودًا في الناصرة. في طفولتي كان عدد سكانها بين الخمسة والعشرين ألفاً والثلاثين ألف نسمة. وكان نصفهم من اللاجئين الذين قدموا إليها من القرى المحيطة والقريبة، التي هدمتها إسرائيل عام 1948. حين افكّر بطفولتي فيها، أقول بالنسبة لي كانت الحياة طبعًا رائعة فيها.

* كيف كانت الأجواء فيها إذن، وها أنت تقول إنها أقرب إلى "الغيتو"؟

نعم، كانت مثل "الغيتو" وهذا ما سمح لها أن تظلّ محافظة على فلسطينيتها. كما قلت، نادرًا ما خرجت منها وأنا صغير. لكنني أتذّكر مثلًا أن المرّة الوحيدة التي ذهبت فيها إلى الشام، أدركتُ من أين نحن، صحيح كنّا نعرف أننا جزء من المشرق، إلا أن العادات نفسها في الشام، وطرق العلاقة مع المساحة أو الفضاء أو المكان إن شئتِ، ومع الزمن ومع السكوت بل وحتّى الصراخ، كانت هي نفسها. هكذا أدركت أننا نمثّل استمرارية للشام بطريقة ما، وخاصّة أنني أتذكر ما كان الكبار يقولون لنا من أنهم ذاهبين إلى الشام أو بيروت لأجل تجهيز العروس مثلًا. كان الأمرُ أدنى إلى الحلم بكل ما تحمله الكلمة من معنى، بالنسبة إلى الطفل الذي كنته، أي أن يخرج المرء من الناصرة. ولاحقًا "خرجت" وتعرّفت إلى فلسطين كلّها حين بدأت بالعمل في التلفزيون البلجيكي.

* قلت مرّة إن فيلماً لإيليا كازان هو "أميركا أميركا"، وكنت في حوالي الثانية عشرة من عمرك، فتّح الوعي لديك، من حيث دلّك إلى أن السينما ليست محض تسلية، وإنما يمكن أن تكون معبّرة عن قصّة شخصية أو جماعية، وإنك بدأت وقتها تنظر إلى السينما باعتبارها طريقًا من طرق الإبداع. هل أحسستها منفذًا لك؟

في البداية كانت السينما بالنسبة لي محض تسلية، رغم أنها حاملة لمعانٍ كثيرة. وكانت الأفلام التي أشاهدها، كأفلام الكاوبوي التي تُعرض في السينما من الروائع حقًا كأفلام جون هيوستون أو مثلًا فيلم "ظهيرة مشتعلة" لغاري كوبر، أو فيلم "ريو برافو"، الذي أظنني شاهدته حوالي ثلاثين مرّة، فقد كانت الأفلام تعاد وتُعاد باستمرار، وكنت دائمًا أذهب إلى السينما.

* وذهابك المتكرّر إلى السينما كان بسبب عدم وجود تسالٍ أخرى، أم بسبب أنه كان عادة اجتماعية رائجة في مشرق ذاك الزمان؟

لا، ليس الأمر على هذا النحو. كانت بداية السينما وخصوصًا الأميركية منها مصنوعة من أجل الفقراء، بل وحتّى المهمشين. فقد كانت الصالات أقرب إلى صالات الألعاب، فيها الآلات البدائية من فترة ما قبل السينما، مثل صناديق الفرجة، وكان يوجد أيضًا لعب القمار. وحين بدأت صناعة الفيلم كان قصيرًا، ويعرض في هذه القاعات نفسها، كلّ نصف ساعة يعرض الفيلم ويُعاد عرضه. كانت السينما خصوصًا سينما الفقراء، ثم حين انتبهوا، وجدوا في السينما إمكانية استقطاب لا الفقراء فحسب بل والطبقة الوسطى أيضًا. كان المهاجرون اليهود في الولايات المتحدة الأميركية هم الذين انتبهوا إلى هذا.

* هل كنت تذهب مع عائلتك في الناصرة إلى السينما؟

لا، لم أكن أذهب مع عائلتي، بل مع أترابي. ففي الناصرة وقتها كما في كل دول العالم الثالث كان ممكنًا حضور فيلمين بتذكرة واحدة. كانت بعض العائلات تذهب مع أطفالها أما عائلتي فلا. على العكس، أتذكّر بدقّة أمرًا أساسيًا انتبهتُ إليه في ما بعد. إذ لم يكن لدي أنا وأترابي نقود كافية كي ندخل معًا إلى السينما. وحين كنّا نفلح بجمع ثمن تذكرة واحدة، كنّا نتناوب على حضور الفيلم، فكل أسبوع يحضر الفيلم واحد منّا داخل الصالة، أمّا البقية فيجلسون وراء الصالة، ومن الجهة الخلفية لشاشة السينما، وهكذا يستمعون إلى الفيلم. وكان دور المتفرج منّا في داخل الصالة، أن يخرج كلّ فترة، وتحديدًا أثناء الحوار، ليخبّر أترابه عن أحداث الفيلم، ثم يعود إلى الصالة ليشاهد أجزاء "الأكشن" من الفيلم. وبسبب تكرار هذا كثيرًا، صرنا نعرف أحداث الفيلم دقيقةً دقيقةً. لاحقًا حين كبرت، وتحديدًا بعد أن أنجزت فيلمي "الأرض الخصبة"، راجت "موضة" في فرنسا تقول بوجوب كتابة السيناريو وفقًا للطريقة الأميركية. فجاء أحدهم وكان من تشيكوسلوفاكيا واسمه فرانك دانييل، وكان قد ترك بلده إبّان ثورة عام 1968 وهرب إلى أوروبا ومنها إلى الولايات المتحدة الأميركية حيث درّس السينما، ثمّ حين عاد للتدريس في أوروبا قيل إنه كان يدرّس السيناريو وفقًا للطريقة الأميركية. لم أكن أمتلك النقود لحضور دروسه ذات الكلفة المرتفعة، فسألت أحد الأصدقاء الذي حضرها عن مضمون الدروس، فأجابني إنه يعلّمنا أن مقدّمة الفيلم تبلغ مثلًا عشر دقائق، وأن تعرف معنى "الأكشن" وتتعرّف إلى شخصيات الفيلم، ثم تطوّر "الأكشن" ومن ثمّ العقدة وبعد ذاك بداية حلّها، أي مجموعة مراحل إلى أن نصل إلى خاتمة الفيلم. ففكرت بالأمر واستعدت بلحظة واحدة ما كنت أفعله أنا وأترابي في الناصرة، وقلت إنني أعرف هذا عن ظهر قلب، دقيقةً دقيقة، وفقًا لممارستي الطفولية تلك. وحينها كتبت فيلمي الروائي الأوّل "عرس الجليل"، إلا أنني بالطبع لم أتقيّد بذاك الترتيب، بل خلطتُ الأمور بطريقة مختلفة، بطريقة فكرية. اكتشفت الأمر من خلال ممارستي الطفولية تلك.

*وماذا عن فيلم إيليا كازان، أهو الذي دفعك لدراسة السينما، أمّ أنّه مسّ شيئًا داخلك وقتها وانتهى الأمر؟

أعطاني فيلم إيليا كازان بعدًا يقول إن هذا الفن الذي كنت أراه كتسلية وضحك، يستطيع الدخول في الواقع، في حيثيات الواقع. وليس هذا فحسب، بل في رهافة تلك الأحاسيس التي هي أحاسيس خاصّة وحميمية بشكل فظيع. أقصد أن أمرًا ما عشته ولم يره أحد سواي، تستطيع السينما أن تجعله مرئيًا وتنقله. وقتها بدأت بالاهتمام بهذه التفاصيل، وغدت مهمّة جدًا بالنسبة لي. تلك الأشياء التي كنت أظن أن أحدًا غيري لم يكن يعرفها، وإذ بي أراها في السينما؛ العين تراها. أي أدركت أنه توجد إمكانية لرؤيتها ونقلها، هكذا فهمت أن عليّ النظر إلى السينما والانتباه إليها بطريقة مختلفة. ورويدً رويدًا خلال فترة امتدّت لحوالي أربع سنوات، صرت وبطريقة عفوية وغريزية أترك تلك الأفلام الشعبية، وأتجه صوب الأفلام التي تحكي عن تجارب عميقة وإنسانية. بدأت أتعرّف قليلًا إلى عالم السينما، صرت أعرف من هو لويس بونويل، وعرفت أيضًا السينما السوفييتية، فقد كان الحزب الشيوعي يعرض أفلامها، لكنني أتذّكر أنني كنت أموت خوفًا وأنا أشاهدها، كأفلام سيرغي إيزنشتاين Sergei M. Eisenstein، إذ إنه يصنع لقطات قريبة جدًا، ويعمل على الكاميرا بطريقة مختلفة. كانت تلك الأمور حاسمة وأساسية بالنسبة لي. في تلك الفترة أيضًا اكتشفت إمكانية عمل فيلم ضدّ العنف وضدّ الحرب لا عنها كما الأفلام التي كنا نشاهدها مثلًا. أتذكّر فيلمًا نسيت أحداثه، إلا أن فيه مشهدًا ما زال يسكنني؛ كان البطل يحاول الخروج من حقل مليء بالمتفجرات، كلّ همّه محصور في الخروج من الحقل والدفاع عن إنسانيته بشكل بسيط. رويدًا رويدًا راحت الأشياء تتحرّك بطريقة مختلفة في ذهني وتحفّزني على التفكير. حين أتيت إلى بلجيكا درست المسرح، إذ، وأنا ابن العشرين وقتها، لم أكن أعرف أن السينما تُدرّس. وبدأت بعد ذاك أدرك وأفهم أن السينما أصعب وأعقد من جون واين مثلًا.

* ربما لديّ بعض الأوهام تجاه الناصرة، ظننت سرًا فيها لأن السينمائيين الفلسطينيين منها، إلا أن صديقًا فلسطينيًا صوّب لي أفكاري عنها، وقال إن لا سرّ فيها وأن كل ما في الأمر أنها أكبر تجمّع للفلسطينيين الذين بقوا في أرضهم عام 1948. لكن المدينة لا تظهر أبدًا في الأفلام الفلسطينية كمدينة مقدّسة مع أنها مدينة سيدنا المسيح، كما لو أن الفلسطينيين يريدون تقديم صورة أخرى تقول إنهم بشر، ويبتعدون قصدًا عن تلك النظرة السياحية صوب الناصرة كمدينة مقدّسة. كما لو أن في الأمر نزعًا لقدسيتها.

لأنك حين تعيشين في مدينة أسطورية أو مقدّسة إن شئتٍ، فأنت لا تعيشينها كما لو أنها أسطورة، بل تعيشينها كمجموعة من القصص الجميلة جدًا، بل وحتى قصص مضحكة. فلو قيل لك مثلًا وأنت طفلة صغيرة، "إبراهيم الخليل"، فستجدين حولك في الناصرة أربعة آلاف إبراهيم الخليل. أو قيل لك مثلًا "يوسف النجار"، وأغلبية النجارين في الناصرة يحملون اسم يوسف، هكذا يتولّد لديك حس بالنكتة، فإنسانية البشر موجودة دائمًا ضمن هذه الجدلية الفكاهية مع الحياة. في ما مضى، كان لدي مشروع لفيلم عنوانه "إنجيل طفل من الناصرة". لم أنجز الفيلم بعد، لأننا في ظروف تموت الحرية فيها، ومن الصعب جدًا عمل فيلم مماثل. ليس لدى الناس خطاب عن الحرية. يحكي الفيلم قصّة طفل عاش كما عشنا في الناصرة أو كما كنا نعيش فيها، هذا الخلط والالتباس بين الواقع والأسطورة أو المقدّس، الموجود في حياتنا اليومية. فمثلًا كنا نذهب إلى قانا الجليل التي نسميها "كفر كنّة" ولا تبعد عن الناصرة إلا عشرة كيلومترات، وقد نكون مدعوين إلى عرس ما فيها، وفي البال ما تعلمناه عن زيارة سيدنا المسيح إليها، وكيف طلب من المرأة إحضار الجرار وملئها بالماء ثمّ حوّل الماء خمرًا. أتذكّر المفارقة، وتعليقًا لأحد شاربي الخمر وقتها، إذ قال جرت العادة على إحضار النبيذ الأبيض أولًا ثم هذا النبيذ الأحمر الرديء. أمرٌ آخر من تلك الزيارات، فلأهل قانا الجليل لهجة تختلف عن لهجتنا في الناصرة، فقد يقلبون الكاف شينًا، وهم يتحدثّون بسرعة ولم أكن أفهم لهجتهم، وكما تعلمين فنحن العرب لدينا بصورة عامّة مفهومًا آليًا عن اللغة، إلا أن اللغة هي خلاصة وحركة، بمعنى أنها تتطوّر. واختلاف اللهجة جعلني وأنا أصغي لهم طفلًا لأن أتساءل: بأي لهجة نطق سيدنا المسيح؟
كان النصّ المقدّس حاضرًا في تفاصيل حياتنا اليومية، مثلًا ما يُذكر في الكتاب المقدّس عن ضرورة إبعاد الثمرة الفاسدة في الصندوق عن الثمار الجيدة، كنت أراه بأم عيني، أشاهد الناس يبعدون الثمرة الفاسدة. بل وحتّى قصيدة محمود درويش التي يقول فيها "وحبوب سنبلة تجفّ ستملأ الوادي سنابل" طالعة من هذا المكان وكتابه المقدّس. كنت أرى المقدّس وأعيشه. كل هذه الأشياء التي أخبر عنها الآن كانت معاشة. المقدّس كان معاشًا، لذا تصلين إلى ظرف تكونين فيه معلّقة بين الأسطورة (المقدّس) والواقع، حيث الواقع يدفعك صوب الأسطورة، والأسطورة تعيدك إلى الواقع.

* أنت في أفلامك تنتقد مجتمعك وفي الوقت نفسه تقاوم المحتل، هل الموضوعان مترابطان لديك؟

انطلقتُ من شيء بسيط: أن قوّة إسرائيل بسبب ضعفنا، وضعفنا ليس بسبب قوّة إسرائيل، بل هو ناجم عن البنية الرثّة لمجتمعنا، فلو أننا أصلحناها، لما استطاعت إسرائيل أن تكون قويّة لهذا الحدّ.

* أي أن السينما تصلح البنية الرثّة في المجتمع؟

أحاول ذلك وفقًا لإمكانياتي. فلنعد ثانية إلى التاريخ، بين آخر السبعينيات وحتّى أوائل التسعينيات، صنعت أفلامًا عديدة. فرضتُ من خلالها خطًا معينًا، الجيل الذي معي أو الذي أتى بعدي تبع هذا الطريق أو عرفه على الأقل. صحيح من الممكن شقّ طريق آخر وهو أمرٌ إنساني ورائع، إلا أن هذا الطريق، حيث المزج بين نقد المجتمع ومقاومة الاحتلال، موجود. حين تنظرين إلى الطريق قد ترين سيارة حمراء وأخرى بيضاء، لكنك لا تعرفين من فتح الطريق. وهو عملٌ صعب.

* يخيّل إليّ أن فيلم بيير باولو بازوليني "اصطياد مواقع تصوير في فلسطين"، الذي كان من لائحة اختياراتك في مهرجان شباك أخيرًا، ضمن تظاهرة "تحية إلى ميشيل خليفي"، أثّر فيك كثيرًا، ولعلّه من دوافع فيلمك "معلول تحتفل بدمارها"، خاصّة أنك قلت إنك تعرّفت إلى أشخاص فيه.

نعم صحيح، تعرّفت إلى أشخاص في فيلم بازوليني، فقد كانوا جيراننا. أثّر الفيلم فيّ كما غيره من أفلام نقلت صوراً عن أماكن أعرفها، وقد غيّر هذا من نظرتي إلى السينما، فلم أعد مهتمًا بعمل فيلم مع جون واين، بل من الممكن عمل فيلم مع هؤلاء الناس العاديين الموجودين في فيلم بازوليني أو غيره، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أدركت أن الواقع الفلسطيني يمكن أن يكون مادة للسينما. دُهشت حين رأيت الجار في فيلم بازوليني، وكان اسمه ميخائيل أبو شبرية، ودهشت أيضًا حين رأيت الخوري، أبونا غوتييه، الذي كان يعطينا الحلوى ونحن أطفال صغار. الخوري الذي يظهر في الفيلم، كان قد قدم إلى فلسطين وقطن فيها، وكان أقرب إلى الإسرائيليين، أي كان مؤيدًا للمشروع الصهيوني كما ظهر في الفيلم. إلا أنه بعد ذاك، ترك ذلك كلّه، وانضمّ إلى الجبهة الديمقراطية وناضل في صفوفها في جنوب لبنان، وهذا الأمر أثّر فيّ كثيرًا أيضًا.

* نحن في الستينيات من القرن المنصرم، ويوجد صعود اليسار، بازوليني نفسه كان شيوعيًا، فكيف لم يستطع أن يعرف من هي الضحية؟

صحيح، ولذلك وضعت فيلم بازوليني في البرنامج وفيلم كريس ماركر "وصف الصراع"، وهذا الأخير هو الذي يمثّل في نظري فيلم اليسار الصهيوني، بل أبعد من هذا، فتلك الدعاية التافهة عن إسرائيل، لا تجدينها حتّى لدى اليمين الصهيوني. إلا أنه في ما يخص بازوليني، فأظن أنهم أعطوه اسم الخوري غوتييه وعنوانه، وهو الذي حاول توجيه بازوليني يمينيًا ليكون في صفّ إسرائيل. إلا أن بازوليني لم يأخذ ولا مرّة في الفيلم موقف الأب غوتييه، بل كان دائمًا منحازًا إلى المجتمع الفقير.

* وبرأي بازوليني أيضًا أن المكان، الذي أتاه لاصطياد مواقع لتصوير فيلمه "الإنجيل حسب متى"، لم يكن حاملًا لنقاء المسيحية وفقًا لما تخيّل، لذا عدل عن تصوير فيلمه في فلسطين وصوره في نهاية المطاف في صقلية. وأنت علّقت على الأمر بأنك تحترم صدقه في ذلك.

صحيح، لكنه لم يعدل عن التصوير في فلسطين بسبب عدم وجود المسيحية النقية هناك، بل بسبب الاستعمار الصهيوني، فقد استعمل تعبير الكولونيالية. واكتشف شيئًا مشابهًا في ذاك المجتمع مع مجتمعه، يقول هؤلاء مثلنا إنهم حركة استعمارية ولا جديد في الأمر. وأنا احترمت صدقه لأن في ذهن بازوليني أو في منطقه، فإن المسيحية قادمة أيضًا من إيطاليا، من تلك الرسومات ومن ذاك التاريخ والجداريات، ثمة استمرارية هناك. فما رآه في فلسطين من مناظر مصغّرة عن أماكن يعرفها في إيطاليا نفسها. وهذا صحيح، كنت في إيطاليا وتحديدًا في غرب روما، في ذاك المكان الذي وقعت فيه هزّة أرضية منذ حوالي أربع سنوات. أنا وجدتُ هناك فلسطين الحقيقية كما أعرفها. كما تعلمين، فإن القرى العريقة في بلدي، هي قرى رومانية، لم تتغيّر من أيام الإمبراطورية الرومانية. فيها عين الماء، وذاك البيت الحجري الصغير. وهو أمرٌ مفهوم، إذ إن روما أخذت من مصر ومن سورية. ثمّة كتاب لقنصل روسي من القرن الثامن عشر يقول فيه إن كل إمبراطوريات العالم على مدى التاريخ أخذت من سورية النحاتين والحجّارين. ثمة إذن هذا الامتزاج الرائع بين الحضارات في منطقة البحر الأبيض المتوسط، فأنت لا تعرفين من السوري الذي شيّد تلك المباني والمساكن. إلا أن الشيء الأساسي الذي فهمته من الفيلم، وهو درس بازوليني بالنسبة لي، أن الأرض هي لغة. لذا في أفلامي في "الذاكرة الخصبة"، أخذت أشياء كثيرة من بازوليني، أن أجعل الأرض تصير شخصية في الفيلم، أن لها دوراً ودوراً كبيراً فيه، بازوليني فتح وعيي على هذه النقطة.

* حين تقول الأرض لغة، فإن هذا يأخذنا إلى الشعر والاستعارة، وأعود إلى فيلم "معلول تحتفل بدمارها"، حيث رسم أحد سكان القرية بعد أن محتها إسرائيل من الوجود. إلى أي حدّ هنا تدخّلت في كتابة هذا الفيلم وهو فيلم وثائقي أصلًا؟ هل ألهمتك اللوحة وبنيت عليها؟

لا، فيلم معلول قصّة أخرى. أنا أعرف عن معلول لأنني كنت أعمل في كراج لتصليح السيارات، وكان المسؤول عني يتحدّر منها. وحين كنّا نذهب من الناصرة إلى حيفا، كان يقول لي انظر هذه معلول، فأنظر ولا أرى إلا الشجر. كنت أخجل أن أقول له إنني لا أراها. كان يحكي قليلًا، كما غالبية الفلسطينيين لأن الصدمة أو الإحساس بالعار يمنع الكلام. وفي طريق العودة، كان يكرر الجملة ذاتها، وأنا لا أرى شيئًا. إلا أنني في النهاية رأيت الصليب على برج الكنيسة من بين الأشجار. وبعد ذاك وأثناء تصويري فيلم "الذاكرة الخصبة"، تذكّرت أن أهل معلول يذهبون في عيد الاستقلال لزيارتها أو زيارة أطلالها. فصورتهم من دون أن تكون لدي فكرة فيلم أو أي شيء. وبعد أن أنهيت "الذاكرة الخصبة" عدت إلى الشرائط التي صورتها عن معلول، ولم أقتنع بها، فقرّرت جمع القليل من النقود كي أستأنف التصوير، إذ لم يكن يوجد إنتاج، وكنت أدّخر من عملي لأموّل عملًا آخر، وهذا ما حصل. عدت إلى معلول وبدأت أسأل عن ناسها، فخبّرني أحدهم عن قصة اللوحة، فذهبت إليه وبدأت ألتقي بالكبار في السن. إلا أن درس التاريخ في الفيلم كان أساسيًا ومهمًّا بالنسبة لي. ففي ذاك الوقت بدأت أفكر وأتأمّل العلاقة بين التاريخ الإيديولوجي والتاريخ المعاش، كنت أقرأ كثيرًا، واكتشفت أن التاريخ الذي ندرسه ليس تاريخًا بل تركيبة إيديولوجية، وأنه ليس مصادفة أن قوّة معينة تأخذ السلطة فتكتب التاريخ كما يحلو لها. فأحببت مواجهة التاريخ الصهيوني بحكايات يومية لناس عاشوا هذه الأمور، لذا كان أساسيًا بالنسبة لي أن أضع في الفيلم درس التاريخ. وقلت إن أفضل طريقة أن يكون درس التاريخ هذا هو الدرس المفروض على الفلسطينيين أنفسهم. وبالطبع نحن لم نكن نصدق الدرس حين كنّا صغارًا، لذا كان مدرّس التاريخ يقول دائمًا في الدرس: هم يقولون ويضحك.

* أنت تصنع فيلمًا بين الوثائقي والروائي، وحتى فيلم "عرس الجليل" أوّل أفلامك الروائية، نستطيع القول إن فيه توثيقًا لعادات الفلسطينيين القرويين في الأفراح، أي حتى لو كان الفيلم روائيًا فلديك هاجس التوثيق، أتفعل ذلك لأن فلسطين تحت الاحتلال؟

مثلًا لو أردت إعادة بناء ما حصل عام 1948 فأنت بحاجة لنقود كثيرة، السينما في النهاية عملية اقتصادية. أنا قادم من الفلسفة التي بدأت في أميركا اللاتينية، التي تقول بثقافة الفقراء. أي إنك تنطلقين من شيء صغير وتحاولين الإحاطة بكلّ أبعاده الاقتصادية والثقافية والتجارية، أنت تطورين الفكرة ليس فقط كي يتعلّم الفقير الكتابة والقراءة بل كي يفكّر. هذه مدرسة ثقافة الفقراء، أحبها جدًا. وقرّرت أن المرء يصل من طريقها، وزدت على الجملة وصرت أقول ثقافة الفقراء ضدّ فقر الثقافة.
لذا أحببت في "الذاكرة الخصبة" أن أشدّ الوثائقي نحو الروائي، وأن أشد الروائي في "عرس الجليل" صوب الوثائقي. أريد محو الحدود بين الوثائقي والروائي، وهو أمرٌ مهمّ بالنسبة لي لأنه يعطي البعد الكتابي شيئًا شاعريًا. اختيار الكادر واللقطة يُخرج المصوّر من وثائقيته ويسمح بوضع الأحاسيس في المشهد.

* إعطاء شيء شاعري لكتابة مماثلة يحيل إلى الشعر. ثمة انطباع لدي أن الثقافة الفلسطينية انتقلت من الشعر إلى السينما، فحضور السينما الفلسطينية اليوم أقوى من حضور الشعر. ما السبب في رأيك؟

نعم، لأنني أفكر أنه طلع جيل، أنا منه، ولعلّي أثّرت في تكوينه، إذ إنني أقول إن الشعر ممكن أن يكون جزءًا من السينما، أما السينما فلا يمكن أن تكون جزءًا من الشعر. فيلم "الذاكرة الخصبة" بُني على قصائد كثيرة، على الكثير من الشعر الفلسطيني؛ كشعر محمود درويش والشعر الشعبي، كنت أبني اللقطات عليه. الأوراق ليست بحوزتي الآن وإلا لأطلعتك عليها.

* أي أنك حين تكتب السيناريو، تستعمل الشعر؟

بالطبع أفعل. حين كنت أحضّر "عرس الجليل" قرأت كلّ الروايات والقصص القصيرة. أستطيع أن أقول لك إن هذا المشهد يأتي من هذا الكتاب أو ذاك. والسبب أنني فهمت أن السينما خلاصة. لم آخذ الشعر في "عرس الجليل" من الشعر الفلسطيني بل أخذته من يانيس ريتسوس، واشتغلت على فيديريكو غارسيا لوركا وأخذت حتّى من بابلو بيكاسو.

* ربما لا نستطيع القول بوجود سينما فلسطينية نظرًا إلى غياب كلّ أدواتها، فهي صناعة كما تعلم، لكننا نستطيع القول بوجود سينمائيين فلسطينيين. كيف تنظر إلى الأمر، أعني من ناحية التراكم، هل سيؤدّي تراكم الأفلام الجيدة إلى وجود سينما فلسطينية، وهل لديك جهود في هذا الخصوص؟ أو مشاريع قادمة ؟ كيان أو هيئة؟

هذا صحيح. لا توجد سينما فلسطينية بل سينمائيين فلسطينيين. لكنني أفكّر أن مشروع سينما فلسطينية هو في طور التكوين، فقد تجاوزنا المرحلة الهلامية. أفكّر فعلًا أن السينما الفلسطينية المستقبلية بدأت بالتكوّن، وهذا أمرٌ عظيم. لدي إحساس هشّ بذلك، إذ يوجد تقارب أكثر فأكثر بين السينمائيين ووزارة الثقافة.

* أي أن الأمر ممكن؟

لا تنسي، نحن عرب، والحرب الأساسية ضدّنا، هي حرب ضدّ كلّ إمكانية لبناء مركز، أي مركز. سيضربون كلّ إمكانياتنا لخلق مركز. لكن قدرنا أن نكون كلنا معًا، في القاهرة أو بيروت أو دمشق، وأن نعمل معًا. المركزية لا تلغي اللامركزية، لو نظرت إلى الهند تجدين نيودلهي وبومباي وغيرها وكلّها فيها صناعة سينما، وهذا ما يجب أن يحصل عندنا. مأساتنا أنه لا يوجد لدينا هذا المركز، وأننا لا نستطيع أن نكون معًا.
كلّ السينمات العالمية في أوائل القرن كانت نابعة من قرارات سياسية وصناعية وأساسية في الدولة الحديثة. مثلًا في ألمانيا جمعوا الوزراء كلّهم وأخذوا القرار ببناء الاستوديوهات، والألمان من أفضل من أبدع في تقنيات السينما، وأخذها عنهم لاحقًا الأميركيون.
قام الاتحاد السوفييتي بعمل ما عملته ألمانيا وكذلك فرنسا. أفكر أن المأساة لدينا، عدم وجود تفكير بالأمر، فنحن لدينا البذور في كلّ العالم العربي، ليس فلسطين فحسب. لدينا سينمائيين لكن لا يوجد لدينا سياسة لصناعة السينما.

* بالعودة إلى مهرجان "شباك" والتظاهرة الخاصّة بك، نجد من جهة أفلام اخترتها أنت، وهي مؤثّرة فيك، هل أنت هنا تكشف مصادر إلهامك مثلًا أو حوافزك؟

كان همّي أن أظهر لجميع المشاهدين أننا نحن العرب صرنا موضوعًا في داخل أوروبا، أي أننا صرنا جزءًا فيها. بالطبع لدينا توجهنا السينمائي تجاه مجتمعاتنا العربية، لكننا أيضًا مستقطبون داخل المدينة الكبيرة التي هي أوروبا، ولا تنسي أن السينما فنّ مديني.
اخترت الأفلام ضمن وجهة النظر هذه، فمثلًا اخترت فيلم "خارج الحياة" لمارون بغدادي لأنّه أوّل من تكلم عن العنف الذي سيحدث في أوروبا من خلالنا، بينما اخترت فيلم عبد اللطيف كشيش "كسكسي"، لأنه يظهر أن العالم الذي نعيش فيه مختلط ومترابط، وأنه يخلق توترًا فظيعًا، ويسمح لليمين المتطرف أن يظهر على حسابنا. أما فيلم "علي" لراينر فاسبيندر، حيث المرأة فيه أمّ وجدّة في آن واحد تقريبًا. أحببت اقتراح أفلام تظهر نظرة الغرب إلينا، وتظهر أيضًا نظرتنا نحن داخل المجتمع الغربي وكيف تعايشنا معه.

* والقسم الآخر من التظاهرة هو أفلامك أنت. كيف تنظر إليها حين تعرض كلها دفعة واحدة، كما لو أنها "الأعمال الكاملة" لك؟ هل تنظر إليها بعين نقدية؟ كأن تقول كان بإمكاني عمل مشهد ما بطريقة أفضل؟

حين أراها كلها معروضة معًا، أحسّ بالمفاجأة بالمعنى الجميل للكلمة، إذ إن المشاهدين يحسون بأنها ما زالت فعّالة ومؤثّرة وأن مواضيعها ما زالت حاضرة وراهنة. رومية التي تظهر في "الذاكرة الخصبة" ماتت، لكنك ترينها حيّة في الفيلم وهي تستطيع مخاطبتك.

* أي أنت راضٍ عن مسيرتك الفنية. ألا تقول لو كان لديك إمكانية لصورت مشهدًا ما بطريقة مختلفة؟

لا أبدًا لا أقول ذلك، ثمة شيء أسميه الهندسة الإنسانية، هي مثل الهندسة المعمارية، حيث توجد مواد قوية وأخرى ضعيفة، ومن أجل البناء أنت بحاجة للاثنتين. أفكر أن الفيلم هو هندسة إنسانية، فيه أشياء ضعيفة وأخرى قوية. أتقبّل الأخطاء، فقد خرج الفيلم مني. أتقبّله بما فيه لأنه تابع لمرحلة ولمغامرة سينمائية وفنية وفكرية. وفي الوقت الحاضر، أنا موجود في مكان آخر.

* تغلب على المرأة في أفلامك، صورتها الإيجابية المثالية لكن المؤنسنة بالطبع. هل تظن أن من وظيفة السينما الدفاع عن المرأة وتحريرها؟

أحب المرأة. لكن في ظروف مجتمعنا، فإن الدفاع عنها أمرٌ جوهري. السؤال الأساسي المطروح: هل المرأة إنسانة أم لا؟ حين يقول الرجل لا هي ناقصة، فهذا يعني أنه لا يحترم امرأته ولا أمه ولا أخته ولا ابنته، وهو إنسان مريض. أي أن هذه المؤسسة الذكورية بحاجة لهدم وتغيير. ثمة جملة رائعة لكارل ماركس: "التقدّم، هو عودة الإنسان دائمًا إلى إنسانيته، وإلى بنى أكثر إنسانية".
وأوّل شيء على المرء القيام به إن أراد تحرير نفسه، أن يعود إلى إنسانيته، وإن عاد إليها حقًا، فعليه الاعتراف بإنسانية المرأة. فلها الحقوق نفسها التي للرجل. وهذا الجنون والهاجس بتقليص المرأة إلى "شرف" و"جسد" مأساة، مأساة للجميع.

* أي أنت تقصد إظهارها بصورة مثالية؟

لا أبدًا، لا أفكّر أنها مثالية، ففي فيلم "الذاكرة الخصبة" تقف رومية ضدّ ابنتها.

* صحيح، لكنك وازنت، فقد وضعتنا في جوّ حياتها، ورأينا صراع الأجيال. نحن لا نرى امرأة شريرة. لكن مشهد المجنّدة الإسرائيلية في "عرس الجليل" لفت نظري. لماذا نحن العرب لدينا هاجس الظهور كطيبين وكرماء ولطفاء؟

لا، لا أظن أن هذه القراءة للمشهد صحيحة. فقد كان الأمر الأساس بالنسبة لي هو التحدي بين الحاكم الإسرائيلي ومختار القرية. عن تلك العلاقة بينهما التي كتبها فرانز فانون في "معذبو الأرض"، حيث ثمّة ما يشبه الافتنان بين المستعمِر والمستعمَر، أي العلاقة بين الجلاد والضحية.

* أي فيها نوع من الاستلاب إن جاز القول؟

نعم، هي عملية استلاب أولًا وأخيرًا. وبالعودة إلى المشهد الخاص بالمجندة الإسرائيلية، فقد تقصّدت أن يبدو "استشراقيًا"، عمدًا استعملت البخور والحلي والرقى، إلا أن الفكرة الرئيسة عن الافتتان. فأنت لو أردت الذهاب إلى أفريقيا لتسيطري على الناس هناك، ستتحببين إليهم. لكن انتبهي، أنه حين غدا الأمر جديًا قام الضابط الإسرائيلي بسحب المجندة، ونهرها قائلًا: وترتدين الثوب الفسطيني أيضًا؟ وهي كانت خائفة من أجل بدلتها العسكرية.

* أنجزت فيلم الطريق 181 مع المخرج الإسرائيلي إيال سيفان، وفيه تبعتما معًا طريق قرار التقسيم، وأقمتما حوارات عفوية مع الفلسطينيين والإسرائيليين. هل تجد فيلمك مثيرًا للجدل؟

لا لا أجد هذا الفيلم مثيرًا للجدل مطلقًا، أفلامي الأخرى يجوز، لكن هذا الفيلم لا.

* كيف تنظر إلى ما قاله بعض الإسرائيليين في الفيلم، حين "تطهّروا" من ذنبهم تجاه الفلسطينيين، كذاك الذي قال أبعدناهم فحسب؟

لا، في الفيلم أردنا إظهار عقليتهم وطريقتهم في التفكير. قليلًا ما تدخّلت عند الحوار مع إسرائيليين فهم من الأشكناز وسيعرفون فورًا من لهجتي أنني فلسطيني، لذا كنت أطلب من إيال أن يسألهم. هم عقلانيون وإيديولوجيون. وبالعودة إلى الرجل الذي ذكرته، حين قال إن الفلسطينيين كانوا يحاولون العودة لكننا منعناهم. هنا تدّخلت وقلت له لكنهم يريدون العودة إلى بيوتهم. فقال "آه بيوتهم. ها أنتما ـ يقصد إيال وأنا ـ تروحان وتجيئان. ألديكما تصريح؟". إذن، هم لا يتقبّلون مواجهة ما فعلوا. أنا وإيال نعرف هذه القصص وأردنا أن يخبّروها علنًا. ومرّة ثانية في الفيلم تدّخلت مع عالم الآثار، سألته: ما الفرق بين السارق والمسروق؟ فأجاب: "نحن السارقون، نعم سرقنا، وعليكم أن تكونوا أذكياء لتستعيدوا ما سرقناه منكم". هذه هي العقلية الغربية كما ترين.

* أكان إيال موافقًا على كلّ هذا؟

نعم كان موافقًا. لقد حضّرنا الفيلم معًا. لم نكتب سيناريو، وإنما زرنا الأماكن وتحدّثنا كثيرًا، واتفقنا أننا نريدهم أن يتكلموا عن الأمور التي تدينهم، وفقًا للمثل القائل: من فمك أدينك. كي تظهر طريقة تفكيرهم، وإلا فلماذا هاجمونا ولماذا قالوا إننا لاساميين، لأن الأمور التي خبّروها لا تقال عادة. أتذكر المشهد الأوّل حيث يقول أحدهم إن العرب حيوانات، التفت إيال صوبي وقال لي أجبه أجبه، فقلت لا أنا لست هنا كي أحكم عليه، أنا هنا كي يُخرج هو كل هذا الكلام. فهذا توجهي في الأفلام الوثائقية، ألا أتدخّل. وقد حصل معي أمرٌ مشابه في التلفزيون البلجيكي وكان عمري سبعة وعشرون عامًا. قلت لأحدهم: ما رأيك بالفلسطينيين؟ فالتفت إلى الوراء وقال لي أترى هذا الكلب الأعور؟ هذا الكلب أفضل من الفلسطينيين. وعندها أيضًا أراد من كان معي أن أجيب الرجل الشاتم، فرفضت وقلت لا، دعه يتكلّم ويظهر تطرّفه.

* يبدو فيلمك "زنديق" سوداويًا تمامًا، كأن لا خلاص مطلقًا. إذ لا يستطيع البطل المبيت في أي مكان، حرمته النوم.

نعم لا يستطيع النوم. حين تنظرين اليوم إلى العالم العربي، إلى السوريين على سبيل المثال، فأين ينام السوريون؟ أتحت القنابل والقصف؟ هذا قدرنا. وبالنسبة لي فإن هذا الفيلم فيلم عن العالم العربي أولًا وأخيرًا. وقد قال لي أحد المشاهدين إن الفيلم مخيف لأن أحداثه تدور في الليل. فأجبته: وكيف هذا؟ أنت ترى القتل والذبح، فما القصّة هنا؟ هل لأن البطل يقلق ولا يستطيع النوم؟

* لا الأمر مختلف، إذ إن هذا القلق يصل فورًا إلى المشاهد.

أكيد، القلق يصل إلى المتلقي، ولا مكان للنوم. في جميع الأحوال فإن الإنسان الحداثي قلق. والقلق هو أصلًا من الأشياء التي تُخيف المجتمع العربي الإسلامي. فهو يخشى ذاك الجزء القلق والمتشائم لدى المتصوفة على سبيل المثال. والقلق جزءٌ أساسٌ من الحداثة. لذا تكثر العيادات النفسية في المجتمع الغربي وتنتشر. أغلب الناس هنا قلقون. وشخصية زنديق في الفيلم شخصية فردية قلقة ولا جذور لها.

* ثمة شيء آخر غير القلق، وغير التجارة بأعضاء الأطفال، إذ إنك قلبت السؤال التقليدي الرئيس "لماذا هربتم؟"، إلى "لماذا بقيتم؟"، بمعنى كيف تحمّلتم؟

نعم، لأنه تمتّ مهاجمتنا لفترة طويلة وتمّ تخويننا لأننا بقينا. تمت إدانتنا من كل الجهات. يقول إيلان بابيه: "كل شعوب العالم لها الحق في ترك وطنها أثناء الحروب إلا الفلسطينيين". نحن جزء من هذه الإنسانية، لكن المشكلة أن عدونا عدوٌ صعب، صعب بشكل فظيع. لدى الحركة الصهيونية هاجس وحيد أن تطرد الفلسطينيين وتأخذ كلّ أرضهم. هذا هو هاجسهم الوحيد، وهذا جنون.

* وأنت؟ من الذين بقوا أم هربوا؟

لا أنا كما يقول محمود درويش أحمل صليبي وأدور العالم كله. صار العالم كله فلسطين.

* تعرّضت أثناء تصوير فيلم "نشيد الحجر" في غزّة إلى محاولة قتل؟

تعرّضت لمرتين؛ مرّة في غزة ومرّة في الضفة الغربية في عام 1989، حين كنت أصوّر فيلم "نشيد الحجر". وضعوا السلاح على صدغي. أتذكّر الأمر تمامًا. فقد كنّا في غزّة وأردنا الدخول إلى مخيم الشاطئ هناك، لنصوّر عائلة فقدت طفلتها الصغيرة هنادي. وكنا قد تركنا التصوير إلى الأيام الأخيرة، تحسبًا لمنع أو حبسٍ أو أي شيء آخر. ففي حال حصل، يكون جلّ الفيلم قد صوّر. كنت أرغب بتصوير الأب لأنه حكى لي قصة ابنته التي تفطر القلب، أردت تصوير الأب ومن ثمّ قبر هنادي. وكان مخيم الشاطئ مطوّقًا من قبل الجيش الإسرائيلي، إلا أن شابًا معنا واسمه حسن، دبّر لنا الدخول إلى المخيم رغم أن ذلك كان ممنوعًا. لم يكن الوالد هناك، بل فقط الأم والإخوة الذين كانوا محبوسين تمامًا في بيتهم كما كل الناس في المخيم. ففكرت بإحضار الكاميرا لتصويرهم، حين خرجت أنا وحسن لإحضار العدّة، أمسك بنا مظليون إسرائيليون وبدأوا بضربنا وسحلنا على الأرض. ثم سمعت صوت الرصاص، وأدركت أنهم أصابوا حسن (في خاصرته). وأراد الذي أصابه أن "يقوّصني"، فجاء ناحيتي ووضع السلاح على صدغي. ما حدث أنني بسبب الغضب و"النرفزة" ربما ابتسمت بطريقة لا إرادية، ثمّ توجهت إليه بالعبرية فورًا وقلت له: هل إن قتل إنسان سهل إلى هذا الحد بالنسبة لك؟ خذني إلى الحاكم العسكري وحاكمني على خطأي في الدخول. وبعد أخذ وردّ، طلب مني أن أمشي في مكان خالٍ، من طرفه الأوّل إلى طرفه الأخير من دون أن ألتفت إلى الوراء وإلا "قوّصني". أعرف المكان، فقد أمر آرئييل شارون في السبعينيات بحرثه بالبلدوزرات، لذا غدا هذ المكان ممسوحًا. مشيت وأنا لا أدري من أمري شيئًا. وكان الفريق السينمائي ما يزال لدى العائلة. فسمعت صوتًا يقول لي: أنت الذي كان مع حسن؟ أصيب حسن لكنه لم يمت. لا تتابع المسير وإلا قوصوك. لقد أرسلوك إلى هناك كي يقتلوك. فأجبت ماذا أفعل إذن؟ فقال الصوت تعال رويدًا رويدًا ناحية البيوت. فعلت ونجّاني أهل غزّة من الموت. ثمة صعوبات كثيرة كما ترين، صعوبات كبيرة دائمًا، لكن هذا عملي، وطبيعي أن يحصل هذا. في النهاية استطعنا إخراج الفريق وصورنا الفيلم. وكنت أمازح الفريق أثناء التحضير لمشهد جنازة في الفيلم، (كل يوم كان يقتل من ثلاثة إلى أربعة فلسطينيين)، وأقول لهم إنْ قتلوني، صوروا جنازتي. كانت أجواء رهيبة، فقد قتلوا صحافيًا سويديًا بعد أسبوع.

* لدي سؤال أخير، هل من مشروع لفيلم جديد؟

نعم لدي مشروع فيلم عن 1948، إعادة بناء. هو فيلم روائي يحكي قصّة طفل وحيد بين أخواته البنات الخمس. وكانت عصابات الهاغاناه تطوّق اللد، والأم لا تستطيع الهرب مع بناتها الخمس والصبي الوحيد، وتريده أن ينجو. فيأخذه جدّه وجدته إلى بير زيت، ثم تقع النكبة، وينكسر المكان إلى اثنين ويستحيل اللقاء. هذه المرة من الناصرة إلى اللدّ، هكذا سأصور الفيلم، في جميع الأحوال سنرجع.
المساهمون