شعر نون النسوة في المغرب

21 يوليو 2015
الشاعرة المغربية وفاء العمراني في أمسية شعرية (العربي الجديد)
+ الخط -
ما الذي يجعل من النصّ الشعري النسائي في المغرب نصًا متعددًا، وليس نصًا تراكميًا، كما في تجارب النصوص التي يكتبها الشعراء؟ أيعود هذا إلى حداثة تجربة نون النسوة، ومن هناك انبثقت هذه الاقتراحات الشعرية كمحاولة لإثبات صوت نسوي ظلّ مقموعًا طيلة تاريخ من الصمت الاجتماعي، ليجد الفرصة أمامه سانحة للبوح، كلّ على شاكلته، ووفق المناخ الخاصّ الذي أفرزه. أم أن الإبداع النسائي عمومًا، والشعري خصوصًا في بيئة الثقافة العربية، المحكوم بهمينة ذكورية، على مستوى التمثّل والممارسة، لم يتح للذات الأنثوية المقموعة أن تختبر نفسها في مواجهة ممارسة ندّية، لذلك كان هذا النصّ أقرب إلى خطاب حول الذات منه إلى فعل ثقافي بمعناه الشامل، وبالتالي وجدت هذه التجارب النسائية في الكتابة باعتبارها جزرا صغيرة لا تصغي إلا لنفسها.

ذات تصلى نارها

إن لحظة استقراء نصوص الشاعرات المغربيات تشير إلى أن التواصل "الشعري" بين أجيال الهائمات بـ"شيطان الشعر" في وادي عبقر كان دومًا وما يزال، خلال الأربعين سنة الماضية، في درجة الصفر. ربّما يبدو هذا الحكم متسرعًا، لكن المنتج النصيّ يعزّز هذه الحقيقة، التي لا تنفصل عن حقائق أخرى تتعلّق عمومًا بمفهوم الكتابة ووظيفتها وتحوّلها من حلية جمالية إلى هوّية.
فليست هناك دراسات وافية استقرت هذه التجارب، وتوقفّت عند أسباب هذه القطيعة بين بعضها البعض، وربما يمكن لسوسيولوجيا الكتابة أن تقترب أكثر من المطبخ الداخلي للشاعرات المغربيات، وأن تضيء على تأثيرات المكان في أعمالهن، هنّ القادمات في أغلبهن إمّا من مدن صغيرة لها أثر تاريخي في الروح، مثل مدينة القصر الكبير، المعروفة بحلقة كبيرة من الأديبات والشاعرات، أو من عائلات أدبية في مدن كبيرة مثل فاس أو مراكش وسلا، أو من أسوار الجامعة المغربية، سنوات الجمر والرصاص وفوران النضال الاجتماعي.
وتقدّم حالة الشاعرة المغربية مليكة العاصمي، نموذجًا يمكن القياس عليه. فنضالها داخل حزب وطني هو حزب الاستقلال، وارتباطها بالحركة الوطنية، جعل قصيدتها تتماهى مع الصوت العروبي السائد، ففي قصيدة لها بعنوان "زلزلة على قرن الثور" ضمّها ديوانها "شيء له أسماء"، نجد بانوراما مدن من بلدان عربية وإسلامية مثل: جنين، وبيروت، وبابل، والشام، وكنعان، ونجد، وتهامة، نقرأ من القصيدة:"أمامك/ يمتشق النخل حساماً في بابلْ/ تتجلّل أشجار الأَرز مناطيداً في بيروتْ/ يتعالى السرد بأرض القدس، ويقذف ألسنةَ/حرابٍ مسنونهْ/ أمامكَ/ يحمل نهر النيل وبردى/ ترتجّ مشارف صحراء المغربِ/تهتز الكثبانُ/ وتصفع وجه النسمات المسكونة بالأرباح."
على الخط الشعري الصلب نفسه، نجد شاعرة أخرى، تَتَبّعها النقد في المغرب وفي العالم العربي، وهي الشاعرة المغربية وفاء العمراني، وهي بعكس مليكة العاصمي بنت المدينة الكبيرة، مراكش، تتحدّر من مدينة القصر الكبير، المعروفة بشاعراتها وكاتباتها أمثال: الباحثة رشيدة بن مسعود والشاعرة وداد بنموسى والشاعرة سعاد الطود والشاعرة أمل الأخضر وغيرهن. في ديوانها "الأنخاب" تحتفي الشاعرة بذاكرة المكان، تقول في قصيدة عن القصر الكبير مدينتها:
"هكذا يطلع إليك (القصر)/ ذاكرة من المرايا/ أنشوطات يسلمها الوقت/ للحكايا/ هنا أرضعتني نخلة/ هنالك فيأتني برتقالة/
وبينهما بذر القلب جراح."
في التجارب الشعرية النسائية، تبرز تجربة فارقة، زاوجت صاحبتها بين الموقف النضالي والحياة الشعرية، إنها تجربة الشاعرة ثريا السقّاط من خلال ديوانها "أغنيات خارج الزمن" الذي صدر سنة 1990، أي سنتين قبيل وفاتها.
ومن الوجوه الشعرية النسائية التي حفرت لها مكانة في القصيدة النسائية المغربية، الشاعرة ثريا ماجدولين، ومن أعمالها: "أوراق الرماد"، و"المتعبون"، والشاعرة ابتسام أشروي في ديوانها "لعبة الظل".
هناك أيضا شاعرة مغربية أخرى لا تزال حاضرة في خريطة الشعر المغربي، وهي الشاعرة حسنة عدي، حيث أعلنت عن نفسها في عملها الشعري الأوّل "صور لامرأة مرتجلة" في أواسط التسعينيات من القرن الماضي. كما يمكن تتبع مسار الشاعرة المغربية الزهرة المنصوري، التي صدر لها أيضًا في الفترة نفسها ديوان "تراتيل"، ومن الجيل نفسه نجد الشاعرة أمل الأخضر في عملها "بقايا كلام"، والشاعرة حبيبة الصوفي، التي أصدرت تباعًا مجاميعها الشعرية؛ "فوق الورق"، و"دمعة الجيل الحزين"، و"مرايا تعكس امرأة".
وتبرز تجربة الشاعرة المغربية عائشة البصري من خلال ديوانها "ليلة سريعة العطب" أو من خلال ترجمة مختارات من شعرها إلى اللغات الفرنسية والإسبانية والتركية والإنجليزية أو في نصوصها الحالية، وعملها الروائي الأخير "ليالي الحرير"، حيث انتقلت الشاعرة من كتابة الشعر إلى تجريب كتابة الرواية. وهذه الحالة، لا تقتصر على الشاعرة عائشة البصري، ولكنها ترتبط بعدد من الشاعرات المغربيات اللواتي تحوّلن شيئًا فشيئًا من القصيدة إلى النصّ السردي، أو زاوجن بينهما، أو عبّرن عن ذلك صراحة برغبتهن في "الفتك" بالنصّ السردي، بعد أن ضاقت القصيدة عن التعبير عن ضفاف التجربة التي نضجت وطفت على ما حولها.
تؤكد الشاعرة عائشة البصري، في قصيدة لها بعنوان "لو كنت قصيدة"، على الرؤية نفسها اتجاه الرجل، كفعل ذكوري، وندّ وجودي، تكتب: "ما ضَرَّكَ/ لَوْ زَرَعْتَني في مِزْهَرِيَّتِكَ قُرُنْفُلَةً،/ وَأَمَتَّني عَطَشاً،/ لآمَنْتُ أنَّكَ مائي،/ وَتَوَهمْتُ السَرَابَ/ في صَحَرائِكَ واحةً..../ دَفْقُكَ ضَوْءٌ،/ حِرْفَتُكَ كَلامٌ،/ وَبَيْنَنا تَصْدَأُ اللغةُ،/ وَيَتَعَفَّنُ الصمتُ."
وتحتلّ الشاعرة فاطمة الزهراء بنّيس مكانة ضمن شاعرات الألفية الثالثة. ومن بينهن أيضًا الشاعرة علية الإدريسي البوزيدي التي أعلنت عن نفسها بقوّة في ديوانها الأوّل "حانة ويشتهيها النبيذ" لتواصل فعلها الشعري بكلّ جرأة ومغامرة، والشاعرة فاتحة مورشيد، التي قفزت فجأة، قبل عقد، إلى المشهد الشعري المغربي، من طبيبة أطفال إلى شاعرة وروائية بمجاميع شعرية متوالية وأعمال سردية ونصوص مترجمة إلى اللغات الأجنبية.

عشب الحزن المتقاسم

تعدّ الشاعرة إكرام عبدي أن حضور الذات في النص الشعري النسائي المغربي، راجع إلى تاريخ طويل من الكبت والقمع، ومن الحكي الصامت. وهذا يتجلّى بعمق في متنها الشعري الذي صدر منه حتى الآن ثلاث مجموعات شعرية. حيث هيمنت تيمة الحزن وغياب اليقين، يترجم ذلك توترٌ وقلق دائمين، تقول في نصّ لها بعنوان "في البدء كانت أنثى":
"أيا امرأة تتقمصني/ ضاق جسدي بك،/ قصي حبل المشيمة بمقص الذهب/ وضعي الحجر الأساس/ لحياة تشرد أرعن./ تيهي في براري القصيدة/ وانبجسي فكرة شاردة/ أغنية غجرية/ واصنعي الإيقاع من صدى هذا الفراغ./ حلقي في سماوات المجاز/ بجناحين من خيال/ وإن شحّ ضوؤهما/ اغمسيهما في بحيرة الشمس/ وأضيئي مجهولا/ متواريًا خلف غيوم الصمت."
تقدّم الشاعرة وداد بنموسى صيغة أخرى من إمكان وجود الشاعرة المغربية في العالم، فمنذ ديوانها "لي جذر في الهواء" إلى عملها الشعري "زوبعة في جسد"، تلج الشاعرة غابة الإشارات، ومغامرة الكشف عن سريرته. ففي نصّ لها يقوم على استدعاء خلفي لسيرة الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا، بعنوان "نصان"، تعيد إنتاج سيرة الاغتراب، تكتب:
"لَيْسَ لِوَجْهِي سورة .../ أُرِيدُ ... لا أَسْتَطِيعُ:/ بِوُسْعِي أَنْ أَغْرُبَ الآن/ بِوُسْعِي أن/ أُجْلي عَنِّي كُلَّ الأحلام/ بِوُسْعِي أن أكْتُبَ وَصِيَّتي للرِّيح/ أنا .../ مُتْعَبَة .../ أريد أن أحيا قليلاً/ بَيْنَ ظِلٍّ وظِلّ/ بَيْنَ يَقْظَةٍ ويَقْظة/ بَيْنَ رَجْفَةٍ/ و/ مَوْت ..."
شاعرة مغربية أخرى، هي رجاء الطالبي في قصيدتها أيضًا هذا الشجن العميق، الذي يحوّل فعل الكتابة إلى فعل اعتراف، ومن نفي إلى أفعال إثبات الذات، وفي اللامفكر فيه هناك دائمًا رغبة عميقة للخلاص من أثقال الماضي، وهو ماض ثقافي بالدرجة الأولى، لأنه ولد في كنف تلك المواضعات، ومنها إضافة إلى المواضعات الأدبية، تقف الاجتماعية منها، في محاولة لسدّ الآفاق أمام دائرة الضوء في مسرح الحرية.
تكتب الطالبي في قصيدة لها بعنوان "جهة الشمس" من خلال رؤيتها النثرية للحياة "تمنطَقْتُ الخسارة لا أقبل أن أكون سوى ذاتي جردتها من الأوهام وقبلت أن أتزوج الحريق. أحشائي لا ترضى سوى بهذا الصبحِ المشتعلِ تُضْرمُ شموسُه الحرائقَ في دمي أشعتُه ألسنةٌ بليغةٌ تبعث حدائقي رمالُ شواطئِه عسلٌ يلفحُ بشرتي ضياؤُه الخاطفُ تغريدٌ يسكنُ خطويَ بسماتُ ثغرِهِ الفتَّان بالضوءِ ترمي أعماقيَ أضحك من الأحزان أطالع هذا السنا يتفجر من جسدي أسخر من جلادي يُقلِّب نظراته في وجهي يبحث عن أثر الضربة في خطوي تزين ابتسامة الضوء مبسمي، الخطو كبرياء".
أما الشاعرة فاطمة الزهراء بنّيس، التي لها حضور مكرّس اليوم، فتعيد تشكيل مفاهيم جديدة للحياة، من خلال تعريفات تصوغها في قصيدتها "بعكس العين"، لتشير إلى الأنثى في مغامرة اكتشاف الذات والاحتكاك مع قانون جاذبية الأشياء، تقول: "ليس هيامًا/ ما يهمسُ به السرير/ في أذن الوسادة/ المجلوّة بالجنوح/ نحو الأقاصي/ هو لسان الليل/ يتهجّى/ وحشة الغرفة" .

لوح المرآة
تتوسط الشاعرة الزهرة المنصوري، المشهد الشعري النسائي في المغرب، فقد شكلت حضورها في مرحلة التسعينيات، من خلال النشر في الملاحق الثقافية والمجلات، لكنها عادت بعد ذلك واختفت أو توارت عن المشهد، ربما كاختيار أو بسبب ظروف ذاتية خاصة، لتعود إلى الإطلالة من جديد. ونصها يتميز بالتماسك والقوة، وربما تغيرت رؤيتها الرمادية التي وسمت نصوصها الأولى عن جديدها. تقول في نص لها بعنوان "لوح المرآة": "أية  ذاكرة تتسع لهذا الحلم؟/ أي جسد يكفيك، يا عشبة مبتلة بالشوك/ وبالمنفى./ طاولة للكلام/ رسوم على الجدار/
ربّما هذه الورقة السريعة لا تتيح تقديم مسح واسع للشاعرات في المغرب، فهناك اليوم أكثر من صوت شعري نسائي يعلن عن نفسه في اللغات العربية والأمازيغية والفرنسية والإنجليزية والإسبانية، وهذا يدعو بطبيعة الحال إلى التريث في إصدار الأحكام وعدم المجازفة في انتظار اكتمال الصورة من خلال تحقق المنجز النصي.
المساهمون