أزرق جورج تراكل

21 يوليو 2015
لوحة للفنان الفرنسي أندريه ديموناز André Deymonaz
+ الخط -
من مجهول ما، ساحر المعنى وشديده، تجيء قصائد جورج تراكل. من صراع الأنا التي لا تكف عن الصراخ والرجاء والبحث الشقي عن نفسها، ترسم تلك الشاعرية المميزة صورها واستعاراتها ورموزها وما تود قوله. إنها الشاعرية المطلقة، تلقائية الوقع والإيقاع، وحبيسة حلم غير معلن بالفرادة والاختلاف، وحاملة في آن لقدرات مدهشة على التجريب وانتزاع ما هو غير مألوف في وقته من مجازات أو صور: "تفترس الوحوش الريح.. وتدميها" أو "الحقول الجافّة تسير مسرعة إلى الأودية الزرقاء.. قد تبتلعها؟". من سيبتلع الآخر الحقول أم الأودية؟ لا يجيب تراكل في قصيدته المثيرة "الرعب" عن هذا السؤال، بل يتابع وصفه القلق لتجلّيات الرعب في قصيدته المنشورة عام 1912 التي سلطت حينها الأضواء عليه، وقادت
إلى اعتبار صاحبها واحدًا من الأصوات المميّزة للتجريبية الشعرية عمومًا، إلى جانب صفات أخرى أضيفت لاسمه: "شاعر التعبيرية الخاص والمتمرد" و "رامبو الشعرية الألمانية".
إلى فضاء مختلف تمامًا، ينتمي تراكل، وإلى لغة خاصة ترجع قصائده، وإلى مشاغل وجودية صارمة الوقع والتأثير تسعى روحه. وهناك بالضبط تفتش عن حلول لورطتها الخالدة. ولا تجد، فتلقي ما لديها من أسلحة بسيطة أصلًا، وتسلّم نفسها للجحيم : "ثم، بصمت، تعود الروح إلى جحيمها الأزرق".
قصيدة تراكل هي التعبير الأدق عمّا يمكن لنزيل مصحة للأمراض النفسية، حين يعود إلى رشده قليلًا، أن يكتبه. هي النداء الغريب الذي يصرخ به المدمن حين يفكّر بالحياة، وهي قبل هذا وذاك؛ ما يمكن للهارب من سؤال العيش إلى سؤال الموت، أن يخلّفه وراءه. ولأنها كذلك، نجحت قصائد الشاعر في رسم بياناتها الخاصة على خارطة الشعرالألماني، وأنتجت إيقاعها الذاتي غير المسبوق . إضافة بالطبع، إلى قدرتها على إكساب مفرداتها، خصوصية فريدة تحوّل تراكل مجازًا إلى مكتشف لتلك المفردات، وكأنه خالقها الأوّل ونافخ الروح فيها، وليس مستخدمها المضطرب والحزين، إذ يصعب على قارىء الشعر الألماني اليوم تجاوز حضور تراكل في المفردات : الجحيم، الرعب، الجنون، الخريف، المجهول، العزلة، الموت، الليل، من جهة، والأزرق معها من جهة أخرى. هي مفرداته وبجدارة، هي ما يشكل عوالمه "أسيرة الأزرق" ويرسمها.
الأزرق هو لون قصيدة تراكل. هو تراكل حين يفرح قليلًا، حين يرغب في الموت، وحين يصف الأشياء والمشاعر. إنه اللون الذي يحمله مثل عربة سحرية إلى المجهول من العوالم والأسئلة، كما المنشود من الرغبات والأحلام. إنه اللون، غير محدد الوظائف. ليس لونًا للموت أو الرعب فحسب عند الشاعر، بل هو لون الخلاص والنجاة كذلك : "البحيرة زرقاء.. الليل أزرق.. والغابة على الطريق.. وأنا أعود إليهما" أو "في الزرقة المتناهية للموت يكتشف سباستيان ما يريد."
قليلة جدًا هي قصائد تراكل التي خلت من سيطرة الأزرق. ونادرة تمامًا استعاراته التي لم توظّف ذلك اللون في متنها، فكل ما تصوّره الشاعر في أثناء نوبات جنونه المتكرّرة، وإقاماته غير القليلة في مصحّات العلاج النفسي، وعبر أسفاره وبحثه المريرعن أناه "الخاسرة دائمًا".
كلّ ما لفّ من حوله أو مسّه كان أزرق : "الأدوية الزرقاء على الطاولة" أو "غادر المجنون قبل قليل حانة المدينة الزرقاء". أو "يعزف الموتى في المقبرة المجاورة ألحانهم الزرقاء" أو"الجحيم أزرق عادة وكذلك الحياة".
وليدة الأزرق وحارسته الأبدية هي قصيدة تراكل. صحيحٌ أن اللونين الأحمر والبني قد ظهرا في قصائده الأخيرة تحديدًا لمرات عديدة، ولكن الصحيح أيضًا أن حضور الأزرق على ذلك النحو غير المسبوق، قد حوّل النص الشعري عنده، إلى مرادف سحري للمجازات، سحرية البعد. تلك التي ينتجها اللون السماوي البهي ويوتّر أشكالها، لتصير قصيدة تراكل زرقاء هي الأخرى. شديدة الزرقة في بحثها عن الحياة وأسبابها، وشديدة الزرقة في سعيها للخلاص المنشود عبر الموت.
تراكل، هو سيد الأزرق في وقته وغير المنافس حاليًا، وقصيدته هي التعبير الأدقّ والأقصى عن صاحبها، صاحب الأزرق. إنها هو. هو القصيدة. هو قصيدته المميزة التي تعكس، وفقط، روح صاحبها، وترسم دربه الحزين، المغامر، والمكلل بالحسرات وخيبات الأمل.
(كاتب فلسطيني)
المساهمون