صديقها السوري

26 مايو 2015
+ الخط -
خُيّل إلي أن ذبابة قوية خطفتني وطارت، ثم حطت بي فوق أعلى الباب وتركتني أراقب ما كنت فيه! بالطبع لم يكن حولي من ذبابة أو حشرة، هذا مفروغ منه. فالمكان غرفة عيادة في المستشفى الجديد في قلب لندن. ولقد طُرد منها الذباب بأمر النظافة الصارمة، وفعل المنظفين من جنسيات مختلفة إلى غير رجعة. الأرجح أن عصفوراً ما حط على غصن قريب وأعارني مشكوراً واحدة من عينيه! في طرف الغرفة تجلس الممرضة لورين رهن إشارة مني. لكن الأمر ليس بهذه الجدية، فعلاقتنا في العمل أقرب إلى الصداقة!
تابعتُ من مكاني المرتفع، الطبيب المتخفي في ملابسي وصوتي يرحب بمريضته الأخيرة لهذا اليوم. "أهلاً بك، عذراً للتأخر. تفضلي بالجلوس رجاء. في رسالة التحويل أقرأ شيئاً عن وجع في الساق، أية واحدة منهما، متى بدأت العوارض وكيف تطور الأمر؟".
بتمعن ظاهر، تلتقط أذنا السيدة سالي وودوورد لكنتي الغريبة، ثم تجيب بلطف "شكراً. يبدو أنك شديد الانشغال، وأنا لست على عجل. في الحقيقة لم أجد ضيراً في الانتظار. من أين أبدأ؟ " ترتبك. أترك لها الاختيار. ألتفت إلى لورين بحركة خاطفة، تفهم ما أفكر فيه.. ليتنا لا نضيع كثيراً من الوقت من دون سبب. "هل لي أن أسأل من أين أنت؟ أرجو أن لا يكون في هذا ما يزعجك". تبادرني سالي بما لم أعد معتاداً عليه، بعد كل هذه السنوات من تنفس الهواء الإنكليزي، وشرب البيرة الداكنة!
"أبداً مطلقاً" طمأنتها، وأضفت "أنا من باتني، جنوب النهر!". مارست عليها نكتة مزمنة أستعملها عادة في مناسبات مشابهة، ألطِّف بها الجو وأدخل عليه شيئاً من المرح. وقد أكتفي بذلك، أو أكمل بما يجيب على السؤال المعني، الذي أدرك أنه لا يستفسر عن منطقة السكن. ورداً على ابتسامة استسلام خائبة من طرفها، تابعت مشبعاً فضولاً واضحاً أخذ يحدق في عيني، "من سورية".
"توقعت ذلك. كان لي بوي فريند، جاء من سورية هو الآخر. كان في الصوت وطريقة النطق شديد الشبه بك. إنه من عائلة معروفة في دمشق، عائلة الدبدبي". أوافقها مشجعاً، ولا أتوقف عند اسم العائلة الغريب. تتابع من دون توقف "حدثني كثيراً عن دمشق الغالية على قلبه، عن بيتهم وفسحة الدار التي تتوسطها بركة ماء ونافورة، عن النبع والمقاهي القريبة منه التي سيأخذني إليها، وعن قطع البيتزا الرقيقة المحشوة بالصنوبر واللحم، التي سنلتهمها بلذة خاصة تحت عرائش العنب. صعدت بي كلماته الحلوة جبل دمشق، ورفعتني الى سمائها المتلئلئة بالنجوم. تذوقنا آيس كريم معجوناً بالفستق أخبرني أنه لا يقاوم، ثم تهنا معاً في سوق ظليل مسقوف فيه أجمل ما صنعته أيدٍ من الأقمشة والمجوهرات، وحولنا تفوح روائح عطور شرقية تسكرنا من غير خمر. وانتهى بنا المطاف في الجامع الأموي أو ما يشبه ذلك، لا أعرف الآن. وفي مرات أخرى، تركنا مع كلماته العاصمة، وأمضينا عدة أيام في فندق فاتن اسمه بالودان... كل ذلك كان ينتظرنا في يوم سفرنا القريب إلى دمشق، يوم لم يأت أبداً! بل إنه أخذني غير مرة في عناقه الطويل، إلى شاطئ البحر في الشمال، وأكلنا السمك المشوي وشربنا العرق، وركضنا على الرمال الناعمة...يا إلهي.. لقد نسيت كثيراً من الأسماء والأوصاف. انتهى الأمر على أي حال".
لفظت اسم المدينة الأقدم في التاريخ بوضوح تام، لا يأتي عادة بتلك السهولة على ألسنة الإنكليز، وحين هنأتها على ذلك، فرحت، وأخرجت من علبة نفائسها عدة كلمات عربية تستعرضها أمامي بفخر. كنت حائراً في أصل معظمها، أما لورين فلم تحاول إخفاء دهشتها. وكرد غير مقصود على رحلتها الجغرافية الغنية، صحت ذاكرتي، وراحت تحوم حول أماكنها الأثيرة في المدينة الكبيرة.
تسكعتُ بجوار فندق رامي، حيث اعتدت الإقامة كلما حللت في دمشق الغالية على قلبي أيضاً، ثم تركت ساحة المرجة ووصلت إلى الصالحية عابراً مقهى البرازيل أسمع شرح أبي مشيراً إلى قبة البرلمان ونادي الضباط، وتوقفنا لنشرب كأساً من عصير الليمون فيه من رحيق دمشق وسحرها ما يملأ كؤوساً. ثم انعطفنا بالاتجاه المعاكس، ومشينا نتتبع خطى سالي وصديقها في سوق الحميدية الطويل وشمس رؤوم تطل علينا عبر فتحات سقفه. تهت في سوقي البزورية والعصرونية، وتضوّعت رائحة البهارات في سماء ذاكرة لا تنسى. وعند مدخل الجامع الأموي الكبير خلعت حذائي، حملته تحت إبطي، وتلبسني انفعال ورهبة في ظل مآذنه الثلاث، خشعت تحت السقف الخشبي البديع، وبين الجدران الفسيفسائية. ورفت أجنحة الطيور في كل اتجاه.
فتح لي قصر العظم أبواب قاعاته الواسعة وحدائقة الداخلية. انطلقت فوق الرخام الملون، بين برك الماء بأشكالها الهندسية ونوافيرها الأنيقة، أستعيد الانبهار في وجه صبي جاء من اللاذقية ببنطلونه القصير، يكتشف المكان، ويهيم بين شجيرات الورد والياسمين. سمعت نقرات عود دمشقي يغازل الحياة، وردت حمامة بهديل كأنه بوح المحب في زهوة لقاء.
تركت المطعم الصحي متخماً بالفتة وبيض الغنم المقلي، إلى مطعم علي بابا الذي "لا تنسى لقمته"، وفي مطعم سحلول كان بانتظاري حساء العدس، الذي حيّر أبي ذات يوم بلونه العسلي. دفعت الباب الزجاجي ودخلت إلى صالة مهنا، أطلب الدفء وأطيب ما في صباح بارد من فطير يتقلب في الصواني الدائرية الساخنة، ثم ملأت علبة خشبية بالمبرومة، سأحملها بفخر إلى مدينتي البحرية.
تجولت في ضواحي الغوطة الحسناء، الجائعة العطشى اليوم. أحاول قدر طاقتي أن أراها كما كانت يوماً. حملتني ذاكرتي إلى المطار الذي ركبت منه طائرة شركة ساس الاسكدنافية، في زمن نسيه الزمن. كانت الساعة قد جاوزت منتصف الليل، وكانت دموع السماء تواسي دموع الفراق الأول في عينيّ. عانقي الوالد في المطار، وما انفك يوصيني بكل شيء. حملتني يومها الطائرة إلى القاهرة، وبدأ ترحال لم ينته بعد!
فجأة رأيتني في كراج اللاذقية القديم. كان مغلقاً. زجاج بابه مكسور، وما من دلال ينادي ولا من سائق يطارد الركاب. غير أن سيارة تعمل بوقود خرافي، وتسير بعجلات لا تلامس الأرض، نقلتني في لمحة عين إلى بيتنا. البيت الذي مضى في حال سبيله كما تمضي البيوت، وقت تباع وتهدم وتسحق، وكما يهرم ويمضي البشر، تسوقهم عصا القدر، أو يقصف أعمارهم سوط لا يرحم.
أراقب من مكاني المشرف وجه المريضة الذي بدا الآن أكثر إرهاقاً وتعباً. أسمعها تعيد جملتها القصيرة المؤلمة "لقد انتهى الأمر على كل حال"، أم تراني كنت أسمع حسرتي، التي ظلت مثل حسرتها معلقة في الهواء! لم تكن لورين أفضل حالاً، لاحظت ذلك من نظرة عابرة، مسحت بها أطراف الغرفة. أعود إلى تعاطفي مع مريضتي بانتظار لحظة التنوير كما في رواية كلاسيكية تورطت بقراءتها، تقلب اليوم صفحاتها أمام عيني من دون تحضير. صمت قصير، تقطعه سالي محدثة نفسها على مسمع من حيرتنا "لم أعرف من بعده رجلاً، ولم يكن لي بعده من بوي فريند. بقيت وحيدة كل تلك السنوات!".
أعيد رسم خطوط جسمها المترهل ووجهها الذي وقعت عليه قسوة الأيام. أمسك بيدي ريشة الخيال، أغمسها في سائل يذيب الندوب والأعمار.
رأيت سالي مرتبة الشعر، نحيلة القوام، غنية الصدر. بل تبيّنتها واقفة في شورت ساخن تحتسي كأساً من شراب مثلج والوقت صيف، ورائحة الشواء في حديقة بيتها الصغير تنادي عصافير المساء المبكر. كان الدمشقي الزائر، بعدما فرغ من تقطيع السلطة وتحضير طبق الحمّص، يقلب أسياخ اللحم فوق الفحم المتقد بيدٍ، وبالأخرى يرفع زجاجة بيرة إلى فمه. ورأيتها في ظهر أحد شتائي تصفُّ الأطباق على مائدة المطبخ ثم تحمل إليها صينية روست بيف أخرجتها للتو من فرن ساخن. وقبل اللقمة الأولى سمعت همسة كأس لكأس، واشتعلت قبلة الضيف على شفتي المضيفة.
أفرك عينيّ، تعود سالي وودورد إلى الكلام من جديد..."كان يأتي إلى لندن كل أسبوع أو أسبوعين، يمضي معي ليلتين أو ثلاثاً ثم يعود إلى مدينته. كنت أعيش بانتظاره. على مدى سنتين أو أكثر، كان يأتي كل أسبوع أو أسبوعين. نمضي دائماً وقتاً طيباً، لم يكن، على طوله كافياً لكل ما نريد، فأعود أنتظره من جديد. لكن انتهى كل شيء فجأة".
"لورين الفضولية، تنتظر المزيد. ماذا لو تكرمت عليها وعلي بشيء من الإيضاح؟ خذي وقتك واشرحي لنا لو تكرمت، كيف، ولمَ انتهى كل شيء. لقد أصبح الأمر محيراً بالفعل". استحثها بكلمات لم أستطع لجم لساني عن قولها. تتنبه لورين لذكر اسمها، تحمل كرسيها وتقترب. لقد أصبح الحديث أكثر إثارة، بل لقد دعيت رسمياً للمشاركة به. "كيف عرفتَ؟ أنا بالفعل أتشوق لما سيأتي، للبقية.. لكني بالفعل آسفة لما سمعت" توافقني لورين، وتثني على ما طلبت متعللاً بها!
"كان يسألني كلما قبّلني قادماً وكلما قبّلني مودعاً، وكلما تيسر بين القبلتين، سؤالاً مكرراً لم يغيره، لمَ لا تتزوجينني؟ وكان يرسم لي خارطة دمشق الفاتنة ويمدّ لي الطريق إليها كبساط أحمر ساحر، وكنت أجيبه كل مرة بالصمت، أو بكلمة من هنا أو هناك، لا توافق ولاترفض، وبقي على عادته في العرض وبذل الوعود كلما أتاني كل أسبوع او أسبوعين. وفي مرة اختليت بالصبية الغضة التي كنتها، وتشاورت معها في أمر القلب والعشق، وأمر الحياة وتكوين العائلة التي لاحت لعينيها وتبادرت لعيني، وبعد شد ورخي وتردد وحيرة، وضح الجواب الذي سيسمعه في الوقت المناسب".
"وجاء حبيبي، ضمّني إليه وغرقت في بحر عينيه، وسكرت بحلاوة كلماته. ولعله سألني: لمَ لا تتزوجينني. أو كان على وشك أن يفعل بكل تأكيد، حين تشجعت وسمعت صوتي يقول بكل وضوح، نعم لنتزوج، مالذي يؤخرنا بعد اليوم. نعم أنا الآن، بعد تردد لا سبب له، موافقة على عرض الزواج من دون أية شروط".
"جميل، جميل جداً، ثم ماذا؟" سبقتني لورين في استحسانها واستفهامها. "نظر إلي متعجباً متفاجئاً، فقد اعتاد مني على اللا جواب، ثم ضحك بعصبية واضحة، أكاد أراها وأشعرها الآن ولن أنسها أبداً، وقال: هل صدقت ما كنت أقول؟ لقد كنت طيلة الوقت أمازحك، كيف أخذت الأمر فجأة على محمل الجد؟". تدحرجت كلمات سالي الأخيرة كأنما كانت تريد أن تتخلص منها بأسرع ما يمكن، ثم صمتت.
ينضمّ إلينا ابن عائلة الدبدبي التي يفترض أن تكون دمشقية معروفة، وإن كنت أشك بوجودها أصلاً، يقف قبالة الفتاة المهدمة التي ستبقى وحيدة من بعده، والتي سيسوقها ذات يوم، إلى عالم لورين المتعاطف وقلبي الضعيف، وجع في ساقها لم نحدد بعد أين يكون. تبدو سالي مجروحة الكرامة، مسفوحة الروح، تنزف خواء ووجعاً، وتكبر فجأة عشرات السنين.
تنظر سالي إلى اللاشيء في أكثر من مكان واتجاه في وقت واحد، تتوقف لورين عن التنفس، وأتوازن أنا بصعوبة حيث حملتني أجنحة لا وجود لها. أعدت للعصفور الكريم عينه المدورة، ونزلت بهدوء مستعيداً موقعي الصحيح على الكرسي وراء مكتب الطبيب الرزين. ملت إلى الأمام مسحت على رأس مريضتي مواسياً، وجففت سائلاً ساخناً يجري على وجنتيها. فعلت ذلك من دون أن أحرك ذراعاً أو يداً، ومن دون أن ألمسها بكل تأكيد، بشهادة كاميرا خفية لو وجدت، وشهادة لورين التي كانت تلمع دمعة في عينيها.
ثم ملطفاً الجو من جديد، ومحاولاً توجيه دفة الحديث باتجاه أفضل، اقترحت فكرة للموافقة عليها، من دون تردد أو إحراج "لا شك أنك تشعرين بالكره لهذا الطبيب الذي تنظرين إليه، والذي عبر النهر وجاء، من دون استئذان، يذكرك بصديقك السوري وتنصّله المعيب! خذي حريتك وعادني كما تشائين!".
"لا أبداً، لم تحسن التخمين. لقد أحببت سامي وما زلت أحبه".
كانت تنظر إليّ بتركيز شديد، بل كانت بدون شك تراه في عينيّ. وكانت، بكل وضوح، كلما تقلّب لساني بكلمة أو جملة، تسمع ساميها من بين شفتي. ومع ذلك فقد خاطرتُ ورفدتُ موقد الألم بحطبة أخرى، وعدت إلى السؤال الأول. "متى بدأت العوارض، وكيف تطور الأمر؟".
(قاص سوري)
المساهمون