"فتح" البدايات: المؤتمر الأول للحركة يضيع في روايات متناقضة

18 ديسمبر 2016
اقترن اسما أبو عمار وأبو جهاد بالتأسيس(محمد عابد/فرانس برس)
+ الخط -
الرقم سبعة مقدس في ديانات الأسرار، ولدى الجماعات الفيثاغورية والهرمسية والغنوصية الكثيرة؛ فهو العدد الذي لا ينقسم إلا على نفسه، والذي ليس حاصلاً لجمع أي من الأعداد الأصلية (1 و2 و3). والمعروف أن في فلسطين ظهرت أعظم ديانات الأسرار قاطبة، أي المسيحية التي صاغت عقيدة القيامة والانبعاث والتجدد، فليس غريباً إذاً أن تقترن بين الحين والآخر التواريخ والوقائع في فلسطين؛ فالمؤتمر العام السادس لحركة فتح، وهو الأول الذي يُعقد على أرض فلسطين، عُقد في كلية "تيرا سانطا" في مدينة بيت لحم في 4/ 8/ 2009، أي في الذكرى الثمانين لميلاد ياسر عرفات (4/ 8 /1929). وبيت لحم هي مكان ولادة المسيح، وعبارة "تيرا سانطا" تعني الأراضي المقدسة. وبعد سبع سنوات بالتمام ها هو المؤتمر السابع للحركة يُعقد في رام الله في 29/ 11/ 2016، أي في الذكرى التاسعة والستين لقرار تقسيم فلسطين الذي أصدرته الأمم المتحدة في 29/ 11/ 1947 (القرار 181).
قبل سبع سنوات تفاءلنا جداً بالمؤتمر السادس الذي عقد بعد عشرين سنة على المؤتمر الخامس (تونس، 1989)، ولاحظنا من بين نتائجه أن بعض قادة الانتفاضة الأولى صاروا من بين قادة حركة فتح (مروان البرغوثي مثلاً)، وأن بعض قادة الدفاع عن الشعب الفلسطيني في مخيمات الشتات صاروا، بدورهم، من بين قادة الحركة (سلطان أبو العينين مثلاً)، وأن المؤتمرين انتخبوا لعضوية المجلس الثوري أربعة مسيحيين ويهودياً واحداً هو أوري دايفيز.

متى عُقد المؤتمر الأول؟
يكاد المؤتمر الأول لحركة "فتح" يضيع في روايات عدة متناقضة ومتنافرة. فالبعض يرى أن اجتماع الكويت في 1 /9/ 1964 الذي أقرَّ الانطلاقة المسلحة هو المؤتمر الأول للحركة، بينما اعتبر البعض الآخر أن المؤتمر الأول للحركة عقد بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967، وبالتحديد في 12/ 6/ 1967، في منزل الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد) في حي ركن الدين في دمشق. وهذا المؤتمر أقرَّ الانطلاقة الثانية، والشروع في بناء الخلايا السرية في الضفة الغربية، وقواعد الإسناد في غور الأردن. والمعروف، إلى حد كبير، أن الموعد الأصلي لانطلاقة الكفاح المسلح كان 1 /9 /1964، أي قبيل مؤتمر القمة العربية في الإسكندرية التي عُقدت في 5 /9 /1964. لكن المجموعات العسكرية لم تتمكن من تنفيذ العمليات الموكلة إليها، ففشلت الانطلاقة في ذلك التاريخ، وجرى تأليف "قيادة عسكرية" من ياسر عرفات ومحمد يوسف النجار وتوفيق حوري. واجتمعت هذه القيادة على الفور في 1/ 9 /1964 في منزل الشهيد أبو جهاد في دمشق وأقرت الانطلاقة في 1/ 1/ 1965، على أن يصدر بيان الانطلاقة باسم "قوات العاصفة"، فإذا نجحت العمليات العسكرية، يتم الإعلان لاحقاً عن أن "العاصفة" هي الجناح العسكري لحركة "فتح". وإذا فشلت فلا تتحمل حركة "فتح" أي مسؤولية مباشرة. والواضح هنا أن ثمة خلطاً في المصادر بين الاجتماع الذي عقد في 12 /6/ 1964، والذي أقرَّ موعد الانطلاقة الأولى في 1/ 9 /1964، والمؤتمر الذي عقد عقب فشل العمليات الأولى، في منزل أبو جهاد في دمشق في 1 /9/ 1964، وأقرَّ الموعد الجديد للانطلاقة. أما اجتماع قيادة حركة فتح في دمشق في 12 /6/ 1967، فلم يكن مؤتمراً بل هو اجتماع عاجل لمناقشة حرب الخامس من حزيران/ يونيو 1967. وفي هذا الاجتماع الذي حضره نحو 30 شخصاً، اتُخذ قرار بتفرغ صلاح خلف (أبو إياد) ومحمد يوسف النجار (أبو يوسف) وعبد الفتاح حمّود (أبو صلاح)، والاستعداد للانطلاقة الثانية. وفي هذا الاجتماع الذي لا يعتبره البعض مؤتمراً، أعلن محمد مَسْوَدة (أبو عبيدة) استقالته من الحركة لعدم موافقته على الانطلاقة الثانية، وكي لا يتحمل أي مسؤولية عن الشهداء الذين سيسقطون - بحسب رأيه - جراء هذا القرار، وبسبب قلة الخبرة العسكرية وضعف الاستعداد.

المؤتمر الثاني
لعل المؤتمر الثاني لحركة "فتح" هو أحد أهم المؤتمرات الحركية من حيث التوقيت، ومن حيث القرارات. فقد عُقد هذا المؤتمر في الزبداني في 12 /6/ 1968 بعد الانطلاقة الثانية، وبعد معركة الكرامة. وفي هذا المؤتمر أُقرَّ مبدأ انتخاب أعضاء اللجنة المركزية للحركة بعدما ظلت هلامية ورجراجة وغير ثابتة العدد منذ الاجتماع التأسيسي في سنة 1959. وعلى سبيل المثال، فقد جرى الاصطلاح على أن أعضاء اللجنة المركزية الذين أقروا الانطلاقة هم: ياسر عرفات، خليل الوزير (تغيّب عن الاجتماع لوجوده في الجزائر)، محمد يوسف النجار، محمود عباس، محمود أبو الفخر، محمد الإفرنجي، حسام الخطيب، واعترض على الموعد عادل عبد الكريم وعبد الله الدنان، في ما سُمّيَ آنذاك تيار العقلاء وتيار المجانين. أما عدد أعضاء اللجنة المركزية فلم يستقر إلا بعد المؤتمر الرابع. وفي أي حال، فإن المؤتمر الثاني انتخب ثلاثة أعضاء فقط هم ياسر عرفات وخليل الوزير وأبو إياد، والثلاثة اختاروا الرابع، والأربعة اختاروا الخامس.. وهكذا حتى التاسع وهم: فاروق القدومي، خالد الحسن، محمود عباس، محمد يوسف النجار، ممدوح صيدم، أبو علي إياد.

فتح: التاريخ الطويل
في العام المقبل تكون حركة فتح فد بلغت الستين من عمرها، فقد ولدت في سنة 1957 حين عقد اللقاء الأول التمهيدي الذي حضره كل من ياسر عرفات وخليل الوزير (أبو جهاد) وعادل عبد الكريم ويوسف عميرة وتوفيق شديد، وربما في 30 /9 /1958 حين جرى اللقاء التكويني في اجتماع الخفجي (في المنطقة المحايدة بين الكويت والسعودية)، أو ربما 10 /10 /1958 حين تألفت النواة التأسيسية للحركة.
كانت تلك محطات أولية على طريق تأسيس حركة فتح. أما الاجتماع التأسيسي الذي بدأت منه حركة فتح بالظهور فكان اجتماع 10 /11 /1959. قبل ذلك في سنة 1958 صيغ البرنامج السياسي للحركة، وفي الاجتماع التأسيسي أُقِّر النظام الداخلي والبنية التنظيمية، وصدر "بيان حركتنا". وفي ما بعد، في سنة 1962، ظهر "هيكل البناء الثوري" الذي كتبه كل من فاروق القدومي (أبو اللطف) ومنير سويد وعادل عبدالكريم وعبدالله الدنان وخليل الوزير حين كانوا يجتمعون في أحد المقاهي البحرية في منطقة السالمية بالكويت. وفي تشرين الأول/ أكتوبر 1959 ظهر اسم "فتح" في الأوساط الفلسطينية، ولا سيما في الكويت وسورية ولبنان، بعد صدور مجلة "فلسطيننا – نداء الحياة" في بيروت، التي أصدرها كل من توفيق حوري وهاني فاخوري لتكون ناطقة باسم الحركة.
من الضروري، بعد مرور هذه السنين، أن نعيد التذكير بهذا التاريخ، وأن نكرر رواية المرحلة التأسيسية بمحطاتها الخطرة، وبوقائعها المثيرة، وبرجالها الرواد؛ هذه المرحلة التي حوّلت الشعب الفلسطيني من لاجئين إلى مناضلين، ووضعته على خريطة السياسة في الشرق الأوسط.


التأسيس
كانت الكويت منشأ الخلية الأولى لحركة "فتح"، وفيها تمكن ياسر عرفات من الحصول على دعم الأثرياء الفلسطينيين أمثال طلعت الغصين وهاني القدومي وعبد المحسن القطان وهاني أبو السعود. وضمت الخلية الأولى لحركة "فتح" كلاً من: ياسر عرفات وأبو جهاد وعادل عبدالكريم (مفتش مادة الرياضيات في مدارس الكويت)، وتوفيق شديد ويوسف عميرة وعبدالله الدنان. وهؤلاء صاغوا "بيان الحركة" واتفقوا على اسم "فتح"، ثم بدأوا الاتصال برفاقهم القدامى في غزة وسورية، فانضم إليهم صلاح خلف وكمال عدوان في سنة 1959. ولم تكد سنة 1959 تنصرم حتى كان عدد أعضاء الحركة قد فاق الخمسمئة.
أسست هذه الخلية منبراً إعلامياً في لبنان باسم "فلسطيننا – نداء الحياة". وصدرت هذه المجلة في تشرين الأول/ أكتوبر 1959 بإشراف كل من الحاج توفيق حوري والسيد هاني فاخوري. وكان توفيق حوري معلماً في مدارس المقاصد وينتمي إلى "جماعة عباد الرحمن" الإسلامية. وظلت هذه المجلة توالي الصدور حتى سنة 1964. وكان أبو جهاد يشرف عليها، ويكتب مع ياسر عرفات معظم مقالاتها. وعملت "فلسطيننا" على ترسيخ الاتصال بين أعضاء حركة "فتح"، فكانت مثل صندوق البريد لهم. ويظهر من مقالات هذه المجلة التي كتب ياسر عرفات بعض مقالاتها تشديدها على تحرير فلسطين بالكفاح المسلح، وعلى الاستقلال التنظيمي عن الأحزاب العربية، وعلى عدم التدخل في شؤون الدول العربية.
في سنة 1960 باتت "فتح" قوة حقيقية في الوسط الفلسطيني، فانضم إليها كل من عبد الفتاح حمود (أبو صلاح) وماجد أبو شرار وأحمد قريع (أبو علاء) وفاروق القدومي (أبو اللطف) وخالد الحسن (أبو السعيد) وهايل عبد الحميد (أبو الهول) وهاني الحسن ومحمود عباس (أبو مازن) ثم زكريا عبدالرحيم (أبو يحيى) في سنة 1963 وخالد اليشرطي.
وهكذا توزع أعضاء حركة فتح الأوائل على مختلف العواصم العربية. ففي الكويت كان ياسر عرفات وعبد الفتاح حمود ونمر صالح (أبو صالح) وخالد الحسن وعبدالله الدنان ويوسف عميرة وعادل عبدالكريم وكمال عدوان وزهير العلمي وتوفيق شديد وفاروق القدومي (أبو اللطف)؛ وفي قطر كان محمود عباس ومحمد يوسف النجار ومحمود المغربي؛ وفي السعودية صلاح خلف ووليد أحمد نمر الحسين (أبو علي إياد) وممدوح صيدم ورفيق النتشة؛ وفي الجزائر خليل الوزير ثم منهل شديد؛ وفي ليبيا محمود أبو الفخر.
منذ البداية، ظهر في حركة فتح تياران: الأول كان يرى ضرورة التروي والتهيئة المدروسة قبل البدء في العمليات العسكرية، وسُمِّيَ أصحاب هذا التيار بـِ"العقلانيين"، وكان من بينهم خالد الحسن وعادل عبدالكريم وعبدالله الدنان. أما الثاني فكان يرى أن من الضروري شن الكفاح المسلح فوراً. ودُعِيَ أصحاب هذا التيار بـِ"المجانين"، وكان منهم ياسر عرفات وخليل الوزير. وتغلب المجانين على العقلانيين، وأُقر إعلان بيان العمليات العسكرية باسم "قوات العاصفة". ومنذ بداية تأسيس الهيكل التنظيمي لحركة فتح تولى ياسر عرفات قيادة المجلس العسكري، وتولى محمد يوسف النجار القيادة العامة لقوات العاصفة. وكان القادة الفعليون للحركة سنة 1963 ياسر عرفات وخليل وعادل عبدالكريم ويوسف عميرة وآخرون. لكن خبرة ياسر عرفات ومزاياه الشخصية ومثابرته جعلته الرأس الموجّه لهم جميعاً.
كان الاتفاق قد جرى على إعلان انطلاقة الكفاح المسلح في أوائل أيلول/ سبتمبر 1964. لكن المجلس العسكري أرجأ ذلك، لأنهم كانوا ما زالوا يحتاجون إلى نحو 500 قطعة سلاح ونحو 50 ألف دينار كويتي لهذه الغاية، الأمر الذي لم يكن متوافراً في ذلك التاريخ. وكان ياسر عرفات جالساً مع أبو يوسف النجار على شاطئ مدينة الكويت يفكران في هذا العائق. وفجأة تطلع ياسر عرفات إلى أبو يوسف النجار قائلاً: عندما قابلت هواري بومدين، عندما كان بمنصب وزير الدفاع الجزائري وطلبت منه المساعدة قال لي: إذهب واطلق رصاصة ثم عد إليّ. الآن ما رأيك أن تقوم أنت بعملية عسكرية، فإذا نجحت العملية تتبناها فتح. وإذا فشلت يكون الذين قاموا بها مجموعة من الشبان المتحمسين ليس أكثر، ونتابع نحن الاستعداد للانطلاقة. وجاء أبو جهاد من الجزائر، واجتمع المجلس العسكري، ووافق على الفكرة.
وهكذا بدأ المسير نحو لحظة انطلاقة الرصاصة الأولى التي انطلقت بالفعل في 1 /1 /1965. وعندما أذيع البيان الأول لقوات العاصفة في 1 /1 /1965 شكّل تدشيناً لعصر جديد سيعم المنطقة العربية بأسرها، هو عصر الكفاح المسلح الفلسطيني.

(كاتب عربي مقيم في بيروت)

المساهمون