والدة شرقيط حكيم، ترفع صورة ابنها كل جمعة من جمعات المسيرات الشعبية في الجزائر، وهي التي لا تزال متشبثة بالأمل في عودة ابنها، أو قول الحقيقة عن مصيره، بعد أن غاب عن عينها منذ 31 ديسمبر/كانون الأول 1993، بينما لم يغمض لها جفن إلا وهي تتحسّس عودته أو تتقصى أخباراً عن مكانه أو معلومات عن جثته، أو عن تفاصيل وفاته إن كان ميتاً.
والدة حكيم الذي لم يعد إلى بيته في العاصمة الجزائرية، تقول لـ"العربي الجديد"، "لم يتجاوز عمره حينها سنّ التاسعة عشرة، وها هو اليوم يغلق السنة السادسة والأربعين، ولو أنّه ما يزال معي في البيت لصار اليوم أباً وعندي أحفاد".
كثيرة هي القصص التي تسردها عائلات المفقودين الجزائريين، ممن عانوا في عزّ أزمة تسعينيات القرن الماضي، في وقت الإرهاب الهمجي، إذ قدر عددهم في أرقام رسمية بنحو 8 آلاف مفقود، فيما تذكر إحصائيات جمعيات المفقودين ولجان تعنى بحقوق الإنسان في الجزائر، أنّ عددهم يتجاوز الـ 20 ألف جزائري، تم اختطافهم قسرياً، وتحويلهم إلى محتشدات في الصحراء الجزائرية، بعدما وجهت لهم تهم الانتماء إلى "الجبهة الإسلامية للإنقاذ"، المحظورة والنشاط الدعوي، منذ إلغاء المسار الانتخابي في عام 1992.
ووجدت عائلات المفقودين في الحراك الشعبي، الذي انطلق في 22 فبراير/شباط العام الماضي، والهبة الشعبية ضد الفساد والظلم وانتهاك الحقوق والمطالبة بالتغيير، فرصة سانحة لفتح الملفّ من جديد، كما قال السيد بنور، والد المفقود ياسين بنور لـ"العربي الجديد"، مؤكداً أنّ المسيرات الشعبية هي وسيلة للضغط على السلطة الفعلية في البلاد، من أجل إعادة فتح الملفات العالقة في زمن منظومة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، واصفاً خروج عائلات المفقودين بأنّه "علاج نفسي لعائلات المفقودين التي تنتظر الجديد بخصوص قضية أبنائها، واقتسام الحزن فيما بين العائلات التي تهون معضلتها، عندما تجد حالات من أمثالها وتتقاسم معها لحظات الانتظار، والحلّ النهائي لمثل هذه القضية".
في شارع الشهيد "العربي بن مهدي" في قلب العاصمة الجزائرية، تجمعت عائلات المفقودين يومي الجمعة والسبت بمناسبة إحياء الذكرى الأولى للحراك الشعبي، واعتادت على التجمع كل أسبوع ورفع لافتات صور أبنائها المفقودين، غير أنّ العائلات ارتأت هذه المرة، قطع المسافات الطويلة من مختلف الولايات من أجل إسماع صوتها للسلطة الحالية، بعدما تم تجميد الملف من طرف الرئيس بوتفليقة في إطار إنهاء الأزمة الأمنية، وإغلاق ملفات فترة الإرهاب عن طريق المصالحة الوطنية، وتعويض العائلات مادياً، الأمر الذي لم تقبله عشرات العائلات ولا تزال تطالب اليوم بالحقيقة، كما قال والد المفقود علي مجبر من ولاية عين الدفلى، لـ"العربي الجديد"، مشيراً إلى أنّ "العائلات تريد الحقيقة، أما التعويضات فهي ذر للرماد في العيون، فهل يعقل أن تقبل العائلات بتعويضات مادية عن فلذات كبدها؟" على حد تساؤله.
ورفعت العائلات شعارات تطالب بالعدالة في معالجة ملف المفقودين، وقول الحقيقة في الاختفاء القسري لأبنائها، فيما اتفقت على أنّ الحراك الشعبي أحيا الأمل في كشف الحقيقة وجبر خاطر الأمهات والآباء، سواء كان أبناؤهم أحياء أم أمواتاً.
سياسياً، عكفت السلطات الجزائرية على الانتهاء من ملف المفقودين في سنة 2010 تطبيقاً لأحكام وتدابير ميثاق السلم والمصالحة الوطنية الذي تم الاستفتاء عليه من طرف الشعب الجزائر في 2005، وتعويض العائلات.
وترفض عائلات المفقودين بحسب جميعات " أس أو أس مفقودين" أن يكون أبناؤهم قد توفوا في الجبال بعد التحاقهم بالجماعات المسلحة، مشددة على مطلب فتح القبور الجماعية ومعاينة الجثث للتأكد من الحقيقة التي تعلنها السلطات الجزائرية.
وأحدثت الأزمة الأمنية في الجزائر، خدوشاً نفسية واجتماعية في الأوساط الشعبية، بسبب آلام الماضي والإرهاب والمجازر الجماعية وترهيب سكان القرى والمدن.