شباب "الخلوي"... سياحة جبليّة في الجزائر

21 فبراير 2020
خلال إحدى الرحلات (عماد طيايبة)
+ الخط -
لسنوات طويلة، اقتصر الحديث عن السياحة في الجزائر على الشواطئ في الصيف، ويقصد ثلاثة ملايين جزائري الجارة تونس، فيما يختار آخرون الشواطئ الجزائريّة. وبدرجة أقلّ، يتمّ الحديث عن السياحة إلى دول معيّنة في العالم، مثل تركيا والصين وبعض الوجهات الخليجيّة، غير أنّها أقرب إلى الخطوط التجاريّة منها إلى الخطوط السياحيّة.

في الفترة الأخيرة، بدأنا نلمس شغفاً واضحاً لدى الجيل الجديد بالسياحة الغابيّة والنهريّة والجبليّة، فظهر مصطلح "التخييم" في الواقع والمواقع، إذ بات الشاب الجزائريّ يستعرض صوره خلال نزهاته البريّة على مواقع التواصل الاجتماعيّ، بعدما كان يستعرض صوره على الشواطئ الرمليّة والصخريّة. وباتت تفاعلات أصدقائه الافتراضيين مع صوره الأولى أكثر من تفاعلاتهم مع الثانية، "بما يشير إلى انتقال بؤرة الشغف السياحيّ"، يقول عضو "جمعية كنوز الجزائر" عبد الحميد براهيمي.

ويربط براهيمي هذا الشغف السياحيّ الطارئ بعوامل موضوعيّة، منها عودة الأمن إلى الفضاءات البريّة الجزائريّة، بعد سنوات من العنف والإرهاب، وإلى فتح المسالك الجبليّة والغابيّة من قبل البلديّات ومصالح الغابات، وتزويد بعض المناطق بالمصاعد الهوائية. يضيف: "صحيح أنّ السياحة الجبليّة تعتمد على العضلات للاستمرار في المسارات المتوحّشة وغير المهيّأة، لكن على الحكومة والمستثمرين الاهتمام بالبنية التحتيّة خارج التجمّعات السكنيّة".

إلا أنّ عارض الأزياء طيّب زهار يُحيلنا إلى دافع آخر في الولع الجديد بالسياحة الجبليّة لدى الشابّ الجزائري، هو انتشار ظاهرة الإقبال على رياضة كمال الأجسام. ويشرح فكرته لـ"العربي الجديد"، بالقول إنّه بعد سنوات من اليأس السياسيّ والاجتماعيّ كان فيها الشابّ الجزائري ينتهك جسده، من خلال المخدّرات والخمول وعدم الاهتمام بالتغذية الصحيّة، شرع يلتفت إلى هذه الأمور أخيراً، من خلال الإقبال على قاعات كمال الأجسام التي أصبحت منتشرة بشكل لافت، وهذا الاهتمام بالجسد أدّى إلى انتعاش السياحة الجبليّة لأنّها مكمّلة لهذا المسعى.

في الغابة أو الجبل، يقول محدّث "العربي الجديد"، إن الشابّ يستطيع أن يمشي مسافة طويلة وأن يتسلّق الأشجار والصخور ويشمّ الهواء النقي، ليجد نفسه عفويّاً وقد مارس رياضات عدة دفعة واحدة. نحن المهتمّين بعروض الأزياء نميل كثيراً إلى ممارسة هذه السياحة خدمة لأجسامنا". يضيف: "ثمّة انعكاس نفسيّ من وراء هذه النزهات كون الشاب يتمكّن من التباهي بعضلاته أمام مرافقيه والموجودين في المكان نفسه".

شغف بالسياحة الغابية (العربي الجديد) 


من جهته، يقول المصوّر ومنظّم الرحلات الجبليّة عماد طيايبة إنّه علينا أن نفهم الشغف الشبابيّ بالسّياحة الجبليّة في إطار انتشار ثقافة الاختلاء بالنّفس في السّنوات الأخيرة بين أوساط الشباب الجزائريّين، أو ما يُعرف في قاموسهم بـ"الخلوي". وباتت تُطلق هذه الصفة على كلّ أمر يعزله عن المحيط، فيقول، مثلاً: "موسيقى خلوي" و"فيلم خلوي" و"صديق خلوي". في مقابل تبنّيه للاسم المستعار في الواقع وعلى موقع التواصل الاجتماعيّ "فيسبوك".

من هنا، دعانا عماد طيايبة إلى مرافقته في رحلة ضمّت ثلاثين شابّاً تراوح أعمارهم ما بين 15 و25 عاماً لرصد حقيقة ما ذهب إليه. كان الاتجاه إلى البحيرة السوداء في غابة أكفادو، 200 كيلومتر إلى الشرق من الجزائر العاصمة. وكان الشباب داخل الحافلة ينخرطون في الغناء أو "التنكيت" الجماعي، ثمّ سرعان ما ينكمش كلّ واحد منهم على نفسه، ويغرق في الكتمان المتّصل بجوّاله والنظر إلى الطبيعة من خلف الزجاج.

ما إن وصلت الحافلة إلى آخر بقعة يمكن السير فيها، حيث بتنا مطالبين بمواصلة الطريق سيراً على الأقدام، حتّى نزلنا. ورصدت سلوكيات تدلّ على ما يُمكن أن نسمّيه "توحّداً" في تعامل الشابّ الجزائريّ مع محيطه، منها أنّ معظمهم كان حاملاً لحقيبة الظّهر الخاصّة به ولا وجود لحقائب وأكياس جماعيّة. والانتشار في جنبات الغابة لالتقاط صور فرديّة ونشرها ساخنةً في مواقع التواصل الاجتماعيّ.

وما عدا جلسة الأكل الجماعيّة التي أشرف عليها منظّمو الرحلة، فقد كان كلّ واحد يجالس نفسه وهاتفه. بل إنّني لاحظت الانفراد بالنفس حتّى داخل تلك الجلسة الجماعيّة نفسها. اقتحمت خلوة أحدهم وسألته: لماذا تجلس وحدك؟ يقول: "أصلاً جئت إلى الغابة لأفعل ذلك. إنّ خلوتي هذه امتداد لخلوتي في غرفتي. وأنا أزور الجبل والغابة مرّتين في الشهر. كلّما توفّر لي مبلغ من المال أقتطع منه ما يغطّي رحلاتي الجبليّة. وأتمكّن من التقاط صور حيّة أتشاركها مع أصدقائي الافتراضيّين". سألته عن الفرق عنده بين الشاطئ والغابة، فقال إنّه عادةً ما يكون الشاطئ مكتظّاً بالناس "وقد يرافقك إليه أهلك، أمّا الغابة فتمنحك فرصة أن تختلي بنفسك وأن تنتقي رفيقك".

سألناه من أين اشترى مستلزمات الرحلة من حقيبة ظهر وخيمة صغيرة وشوّاية وحذاء مخصّص للأحراش والمنحدرات والمرتفعات، فقال إنّ انتشار السياحة الجبليّة أدّى إلى انتشار المحال التجاريّة المتخصّصة في هذه الأغراض. "عادةً ما نتعامل مع الوكالات السياحيّة المتخصّصة في هذا النوع من السياحة، حيث يتمّ توجيه الزبائن إليها لاقتناء حاجياتهم، كما أنّ هذه المحالّ تعتمد على التسويق الإلكترونيّ الذي أصبح موضة".


مقهى ثقافي براري

كانت الرحلة منظّمة ضمن مبادرة أطلق عليها أصحابها "المقهى الثقافي براري"، وهو واحد من روافد مشروع المقهى الثقافي الذي تحتضنه مدينة برج بوعريريج، 200 كيلومتر إلى الشرق من الجزائر العاصمة. ويتضمّن برنامج المقهى الذي ينظّم في الغابات والشلّالات والبحيرات والمنتجعات الجبليّة حكايات وقراءة جماعيّة لكتاب ومطالعات حرّة وتبادل كتب وقراءات شعرية وعزفاً فرديّاً ورسم جداريّات على الصخر وشواءً على الجمر ورفع ورقة للسلطات المحليّة تتضمّن اقتراحات تهدف إلى ترقية المكان سياحيّاً وثقافيّاً، إضافة إلى كتابة تقارير صحافيّة عن المكان تسويقاً لجماليّاته وطاقاته السياحيّة.

ويقول عضو المقهى الثقافيّ فاروق بن شريف لـ"لعربي الجديد": "نحن مطالبون بابتكار أساليب جديدةٍ ومنسجمةٍ مع اللّحظة المعاصرة، لربط تلقّي الفنون بالحياة وفنّ العيش. ولو صرفنا عُشُرَ ما صرفناه على النشاطات الثقافيّة داخل الجدران، على ربط الفعل الثقافي بالفضاءات المفتوحة، لكنّا وصلنا اليوم إلى فضاء ثقافيّ ينتج ويتلقّى الفعل الثقافيّ والفنيّ والأدبيّ ذاتيّاً، ولانعكس ذلك على سلوكه وتفكيره وممارساته وأفعاله وردود فعله".

يضيف بن شريف: "ثمّة شابّ جديد مرتبط بالفضاءات المفتوحة. وعلينا اقتراح برامج ثقافيّة عليه بصفته فاعلاً ومتلقيّاً فيها، مع الاستفادة من خبرته في التعامل مع التكنولوجيّات الحديثة لتسويق ذلك. وعلى الناشطين الثقافيّين أن يبعثوا مبادراتٍ تُموّل نفسها بنفسها تحقيقاً للاستقلاليّة وتثميناً للعقل المبادر واقتراباً من الشابّ، الذّي يرفض التبعيّة للمؤسّسات الرسمية المتكلّسة".
يختم قائلاً: "ثمّة فضاء طبيعيّ في الجزائر بقي بلا مضمون ثقافيّ. وثمّة جيل جديد مستعدّ لأن يُموِّل فنّاني الشارع والفضاءات المفتوحة الذين آن لهم أن يعلنوا عن أنفسهم، عوضاً عن مضغ الشكوى في فيسبوك".

دلالات
المساهمون