"تحالف الراغبين"... تدبير أوروبي للمهاجرين العالقين في المتوسط

15 اغسطس 2019
انتشلوا للتوّ من المياه (آن شاوون/ فرانس برس)
+ الخط -

ما زالت قضية إنقاذ المهاجرين عبر البحر الأبيض المتوسط واستقبالهم مثار أخذ وردّ في أوروبا، لا سيّما مع رفض إيطاليا ومالطا المتكرر السماح لسفن الإنقاذ بالرسو في موانئها.

وجّهت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في الأيام الأخيرة نداءات متكررة إلى الحكومات الأوروبية للسماح بإنزال 507 أشخاص أُنقذوا أخيراً من مياه البحر الأبيض المتوسط وما زالوا عالقين في عرضه، ولتقاسم أعباء استضافتهم. وقد أوضحت المفوضية أنّ ثمّة 151 مهاجراً ما زالوا ينتظرون مصيرهم على متن سفينة الإنقاذ "أوبن آرمز"، فيما أنقذت سفينة "أوشن فايكينغ" 356 آخرين في الأيام الأخيرة. وفي ظل إصرار وزير الداخلية الإيطالي ماتيو سالفيني على رفضه لفتح مرافئ بلاده أمام هؤلاء المهاجرين السريين العالقين وسط المياه منذ أيام، على متن سفينتَين تابعتَين لمنظمتَين غير حكوميتَين ("برواكتيفا" و"إس أو إس ميديتيرانيه") أنقذتاهم من قبالة سواحل ليبيا، صرّح المبعوث الخاص للمفوضية في وسط البحر المتوسط، فينسنت كوشيل، بأنّ ثمّة سباقاً مع الزمن، إذ إنّ العواصف تقترب والظروف سوف تزداد سوءاً وسوف تُضاف معاناة جديدة إلى ما يعانيه في الأساس هؤلاء المهاجرون. وشدّد كوشيل على ضرورة السماح لهؤلاء الذين فرّوا من الحرب والعنف بالرسو فوراً وبتلقي مساعدات إنسانية هم في أمسّ الحاجة إليها.

وملف إنقاذ المهاجرين طالبي اللجوء وآلية توزيعهم يرهق الاتحاد الأوروبي، فهو واحد من أبرز نقاط الخلاف بين دول الاتحاد. ولعلّ الحلّ هو من خلال "تحالف الراغبين" الذي اقترحت ألمانيا تشكيله من الدول المستعدة للمساعدة واستقبال هؤلاء المهاجرين بعد إنقاذهم من الغرق وفق آلية تحددها المفوضية الأوروبية. ويفترض ذلك الحلّ إجراءات جديدة لدعم الدول الواقعة على الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي، لا سيّما إيطاليا ومالطا واليونان التي تعاني من جرّاء تدفق المهاجرين عبر البحر الأبيض المتوسط وتخوض مناكفات مع منظمات إغاثة أوروبية تبحر سفنها لإنقاذ العالقين في البحر الأبيض المتوسط، علماً أنّ عشرات منهم يتمّ إنقاذهم أسبوعياً.

يأتي ذلك بعدما فرض واقع جديد نفسه على مسار الأمور، مع تبدّل الوضع في منطقة البحر الأبيض المتوسط منذ بداية العام الجاري، وفقاً للمنظمة الدولية للهجرة، على الرغم من أنّ عدد المهاجرين بحراً تراجع بالمقارنة مع الأعوام الماضية. لكنّ الوضع صار أكثر خطورة، لا سيّما مع رفض إيطاليا على لسان سالفيني، وكذلك مالطا، استقبال سفن الإنقاذ البحري التابعة لمنظمات غير حكومية، وهو ما يهدّد بمخاطر عدّة نتيجة بقاء السفن على مدى أيام في عرض البحر.

من المركب المطاطي إلى سفينة الإنقاذ (آن شاوون/ فرانس برس)

وتبدو الخلافات في داخل دول الاتحاد عميقة حول التوزيع المستقبلي للمهاجرين الذين يجري إنقاذهم من البحر الأبيض المتوسط ، لدرجة أنّه في الإمكان تشبيه الأمر بلعبة "بينغو"، لا سيّما مع صعوبة المواءمة ما بين الوضع الإنساني للمهاجرين وبين تطبيق القانون في إطار سياسات الهجرة في خلال المفاوضات، على الرغم من أنّ التقديرات تشير إلى انخفاض عدد الوافدين من 40 ألف مهاجر إلى ما دون تسعة آلاف مهاجر في غضون 12 شهراً.

وكانت صحيفة "فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ" الألمانية قد نقلت عن المفوض الأوروبي لشؤون اللاجئين ديميتريس أفراموبولوس قوله إنّ 800 شخص أنقذوا في العام الماضي نتيجة اتفاقات طوعية، مشدداً على أنّه لا يمكن الاستمرار بهذه الطريقة وترك المهاجرين لمصيرهم. يُذكر أنّ المنظمة الدولية للهجرة، وبحسب ما نقلت صحيفة "دي تسايت" الألمانية، قد أعلنت أخيراً أنّ عدد المهاجرين الذين غرقوا في البحر الأبيض المتوسط بلغ هذا العام 682 شخصاً، من بينهم 426 كانوا في طريقهم إلى أوروبا انطلاقاً من ليبيا.

في خلال اجتماع الأزمة الذي عُقد في العاصمة الفرنسية باريس، في يوليو/ تموز المنصرم، لمناقشة ملف إنقاذ المهاجرين المهددين بالغرق في عرض البحر الأبيض المتوسط، أبدت 14 دولة اهتمامها لجهة المبدأ بـ"آلية تضامن" اقترحتها ألمانيا وفرنسا على خلفية الوضع الصعب في عمليات الإنقاذ، وقد انضمت إليها النرويج وسويسرا، الدولتان غير العضوَين في الاتحاد الأوروبي، فيما وافقت ثماني دول على أداء دور نشط. وإلى جانب ألمانيا وفرنسا، وافقت كلّ من لوكسمبورغ والبرتغال وفنلندا وأيرلندا وكرواتيا وليتوانيا والسويد على استقبال أعداد من المهاجرين الذين يتمّ إنقاذهم من البحر الأبيض المتوسط، إلا أنّ الاتفاق على آلية الطوارئ المؤقتة تلك ما زال غير واضح، ومن المنتظر عقد اجتماع نهائي في مالطا في بداية سبتمبر/ أيلول المقبل لحسم الأمر. وبناء على ذلك، يمكن وصف ما حصل على الأقلّ بأنّه عملية تطوير روتيني معيّن في توزيع المهاجرين والعمل على معاملة إنسانية أفضل وتنفيذ عمليات الإجلاء بوتيرة أسرع وفتح موانئ استقبال أخرى.


في المقابل، أكدت إيطاليا، وهي أكثر الدول تضرراً التي باتت محطة لإنزال المهاجرين في الفردوس الأوروبي بمعاونة منظمات الإنقاذ، أنّها ترغب في منع المهاجرين من الوصول بصورة أساسية إلى الموانئ الإيطالية. بالتالي، هي تسعى إلى تغيير القواعد ووضع حدّ لتهريب البشر، والأهم من كلّ ذلك توزيع المهاجرين جميعهم وليس فقط أولئك الذين يملكون فرصة للحصول على حقّ اللجوء، وذلك على خلفية قلق روما من بقاء "المهاجرين غير الشرعيين" على أراضيها، إذ إنّه يصعب ترحيلهم لاحقاً، وفقاً للداخلية الإيطالية.

في السياق، ثمّة من يرى في ألمانيا وجوب توخّي الحذر لجهة عدم خلق عامل جذب لهؤلاء المهاجرين من خلال الآلية الجديدة، مخافة أن يشجّع ذلك مزيداً من الأشخاص على المخاطرة بحياتهم والهروب إلى أوروبا. كذلك يرى هؤلاء الألمان ضرورة أن تتجنّب ألمانيا إعطاء انطباع بأنّها تسير بمفردها، بل التنسيق مع جيرانها الأوروبيين. والجهود الألمانية الحثيثة في هذا المجال دفعت وزير الخارجية الألماني هايكو ماس إلى التشديد أخيراً على ضرورة أن يتّخذ شركاء الاتحاد الأوروبي "خطوة حاسمة " في التعامل مع من يتمّ إنقاذهم والالتزام بحلّ إنساني وعملي للتحديات الحالية للهجرة عبر البحر الأبيض المتوسط. تجدر الإشارة إلى أنّ سالفيني قاطع اجتماع الأزمة الذي شارك فيه وزراء خارجية وداخلية أوروبيين في باريس، ولم يُظهر أيّ اهتمام بجهودهم.

في خضمّ كل ذلك، يقتصر دور المفوضية الأوروبية حالياً على التنسيق، ولا يمكنها مطالبة أيّ دولة حتى بإدراج المهاجرين وتحديد أعدادهم، بل هي تأمل فقط بالحصول على ردود إيجابية من تلك الدول في ما يتعلق باستقبال مهاجرين سريين. يُذكر أنّ ثمّة توجهاً لدى بعض الدول، أبرزها ألمانيا، إلى الالتزام باستقبال أعداد من هؤلاء، وهو ما يعني الرضوخ لحلول مؤقتة قابلة للتطبيق من دون الحاجة إلى التواصل في كل مرّة مع الدول التي تعمل على إنقاذهم والتي يتطلب منها القيام بالإجراءات القانونية واللوجستية والأمنية، منها التسجيل والفحص الطبي.

... وأخيراً على متن سفينة "أوشن فايكنغ" (آن شاوون/ فرانس برس)

وتبيّن تقارير تناولت أحدها صحيفة "دي فيلت" الألمانية، أنّ خبراء الهجرة، من بينهم جيرالد كناوس مهندس اتفاق الهجرة مع تركيا الذي يطرح تحديد مراكز استقبال مركزية على الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي، يميلون إلى إبرام اتفاقات مع بلدان العبور للتمكّن من استعادة طالبي اللجوء المرفوضين في مقابل توفير الحوافز والوسائل القانونية لهجرة اليد العاملة والاستثمار في اقتصادات تلك البلدان، من خلال وضع مبادرات لتحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة في أفريقيا.

وهذا الواقع يبدو أنّه فرض نفسه على أولويات عمل الرئيسة الجديدة للمفوضية الأوروبية، الألمانية أورسولا فون ديرلاين، التي تتسلم مهامها في بروكسل ابتداءً من الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. فهي وعدت بعد اجتماعات عقدتها مع قادة بعض الدول بالسعي إلى إبرام ميثاق هجرة جديد يتكفل بتقاسم أعبائها، في حين ترفض دول مثل المجر وبولندا الالتزام بقبول طالبي اللجوء. ويدور الحديث حالياً حول تغيّر في نمط السياسة الأوروبية وأمل في مزيد من التفاهم مع بودابست ووارسو، مع التعويل على اختلاف أداء فون ديرلاين عن أداء سلفها جان كلود يونكر في ممارسة السلطة والتأثير في عمليات صنع القرار وفهم أكبر للتعاطي مع مجموعة "فيسغراد" التي تضمّ جمهورية التشيك والمجر وبولندا وسلوفاكيا، مع الإصرار على احترام سيادة القانون وفصل السلطات وحرية التعبير والقضاء المستقل.

تجدر الإشارة إلى أنّ المعاهدات والمواثيق الدولية الملزمة تنصّ على إنقاذ الأشخاص المعرّضين إلى الخطر في عرض البحر، وقد نقل موقع "دويتشه فيله" الألماني عن أستاذ القانون البحري العام والقانون البحري الدولي في جامعة هامبورغ الألمانية ألكسندر برويلس قوله إنّ الاتفاقية الدولية لسلامة الأرواح في البحار (1974) والاتفاقية الدولية للبحث والإنقاذ البحريين (1979) واتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (1982) تلزم الأطراف الموقّعة عليها وكذلك السفن التي تحمل أعلام تلك الدول بإنقاذ حياة الأشخاص المعرّضين للغرق. وقد أضاف برويلس أنّ المنظمة البحرية الدولية شدّدت على ضرورة نقل هؤلاء الأشخاص المعرّضين إلى الخطر إلى أماكن آمنة بأسرع وقت ممكن تفادياً للأسوأ، لافتاً إلى أنّ البلدان الساحلية ملزمة بالسماح للسفن بالإرساء في الموانئ في الحالات الطارئة، عندما تكون حياة الركاب مهددة أو عند وجود نقص في المواد الأولية أو عند المرض أو عند تعرضها إلى مشاكل تقنية. وأكّد برويلس في السياق أنّ روما طوّرت تشريعاتها بما يتناسب مع هذه الاتفاقات، والمحاكم الإيطالية أكّدت في أحكامها على وجوب إنقاذ الأفراد المهددين بالمخاطر لا سيّما الغرق.


وفي ما يتعلّق بالإطار القانوني على المستوى الدولي لكيفية التعامل مع منظمات الإنقاذ، أوضح برويلس أنّ أيّ قوانين خاصة لم تُدرَج لتنظيم العمليات التي تنفذها المنظمات غير الحكومية، مع تشديده على عدم وجود أيّ إشكالية في هذا المجال لأنّ فعل الإنقاذ واجب والاتفاقيات تنصّ على عدم التفريق بين الأفراد وفق أصولهم أو جنسياتهم أو أيّ خلفيات أخرى.
المساهمون