مبادرات شعبية... عراقيون يحضرون حين تغيب الحكومة

03 يونيو 2019
من مبادرة "أنا أقرأ" (العربي الجديد)
+ الخط -

عدم أداء الجهات الحكومية العراقية دورها المفترض، وسوء الإدارة، والفساد المستشري في مفاصل الدولة، دفع الكثير من المواطنين، إلى تنظيم حملات إنسانية دائمة لمساعدة المتضررين والتخفيف عنهم

شهد العام الجاري تنامياً ملحوظاً في المبادرات والحملات الشعبية العراقية، والتي تجاوزت الجانب المتعلق بتوفير الطعام والمسكن أو الدواء، باتجاه الجانب التثقيفي والتعليمي والتربوي، للمساهمة في مساعدة المجتمع، آخذة بذلك دور الجهات الحكومية الغائبة غالباً.

عضو شبكة منظمات المجتمع المدني المرتبطة بالأمانة العامة لمجلس الوزراء العراقي، رياض الساعدي، يقول إنّ بغداد ونينوى والأنبار أكثر مدن العراق التي سجلت مبادرات وحملات تطوعية إنسانية جماعية وفردية. يضيف، لـ "العربي الجديد"، أنّه منذ الأول من فبراير/شباط الماضي حتى الثامن عشر من مايو/أيار الماضي، سجلت البلاد أكثر من 800 مبادرة وحملة مختلفة ومتنوعة، وساهمت في مساعدة عشرات آلاف المواطنين، على مستوى الطعام والسكن والملبس والعلاج والجوانب الأخرى. يتابع أنّ الناشطين باتوا أكثر حركة، والمتبرعين يثقون فيهم أكثر من غيرهم، وأعمالهم تنشر على وسائل التواصل الاجتماعي بطريقة البث المباشر، في كثير من الأحيان، وهو ما يوفر المصداقية ويمنح المجتمع قوة وتماسكاً ويقلل نسبة البؤس فيه".

ضحك في وجه السرطان

التدهور الذي أصاب مختلف مرافق العراق الخدمية ألقى بظلاله الصعبة على السكان، لا سيما مع ما شهدته بلادهم من حروب كان من بين آثارها انتشار مرض السرطان، خصوصاً مع استخدام أسلحة محرمة دولياً تتسبب في أمراض في الإمكان أن تنتقل إلى أجيال لاحقة عبر جينات المصابين.

هذه المساعدات تخفف من هموم المواطنين (العربي الجديد)


الحروب والمعارك التي شهدتها بلاد الرافدين، في العقود الخمسة الأخيرة، تسببت أسلحتها التي كان لجميع المدن الآهلة بالسكان حصة منها، في أمراض عديدة، بحسب الدكتور أحمد الربيعي، وهو طبيب متخصص في علاج الأورام. يشير، في حديثه إلى "العربي الجديد"، إلى أنّ "نسب الإصابة بالأمراض السرطانية ترتفع سنوياً في العراق بسبب عوامل عديدة، أبرزها التلوث الخطير في عدة مناطق في البلاد، بسبب تعرّضها لقصف أو عمليات عسكرية، فضلاً عن عوامل عديدة نتيجة الحروب أيضاً أدت إلى إضعاف مناعة نسبة كبيرة من السكان، ما جعلهم عرضة للإصابة بهذه الأمراض".

أما الدور الأهم الذي يمكن أن يخفض من نسبة الإصابة بهذا المرض فهو "مفقود"، بحسب الربيعي، مبيناً أنّ "هذا الدور هو الدور الحكومي، لكن للأسف فالجهات الحكومية لم تأخذ دورها. العراق في حاجة إلى مراكز كبيرة متخصصة مجهزة بجميع الخدمات التي تساهم في علاج المرضى".



ناشطون في مجال المجتمع المدني وفنانون وصحافيون تبنّوا وما زالوا حملات عديدة لمساعدة مرضى السرطان، وهم يؤكدون أنّ عملهم التطوعي هو "واجب" عليهم أداؤه بإخلاص. محمد سعيد، شارك في العديد من الحملات لدعم مرضى السرطان، مستغلاً موهبته في التمثيل. يقول لـ "العربي الجديد" إنّه يقدم فقرات ترفيهية للأطفال المصابين بالسرطان من خلال ارتدائه زي المهرج وأداء حركات بهلوانية ومقاطع تمثيلية. يؤكد أنّه يشعر بسعادة غامرة وهو يقضي أوقاتاً تستمر لساعات مع أطفال مصابين بهذا المرض: "هم يضحكون حين يشاهدون أدائي. الأطباء أخبروني بأنّ الضحك يساعدهم في التغلب على آلامهم، ويحسن حالتهم النفسية، وأيضاً يساهم بنسبة ما في شفائهم".

سعيد يقول إنّه ومجموعة كبيرة من زملائه الفنانين الشباب على استعداد لتأسيس فرق خاصة تطوعية لتقديم فقرات تمثيلية مرحة، للتخفيف عن مرضى السرطان، في حال ساهمت الجهات الحكومية في بناء مستشفيات حديثة للعلاج من هذا المرض، مبيناً: "لكن أنا وزملائي لا ننتظر حتى تبنى تلك المستشفيات، بل نؤدي منذ سنوات ما نعتقد أنّه دورنا في الحياة وفي الوطن".

"أنا أقرأ"

الحياة وقساوة ظروفها تسببت في ابتعاد واضح للشباب عن الكتاب والمطالعة. همّهم الأكبر الحصول على عمل، حكومي أو خاص، وتحسين ظروفهم المهنية، في وقت تنتشر فيه البطالة، ويزداد الفقر. شباب عراقيون مثقفون من الجنسين كانوا يدركون أنّ خطراً يتهدد مستقبل الجيل المقبل، إن لم يستمر في السير على طريق الثقافة الذي عبّدته أجيال المثقفين الذين سبقوهم، فاهتدوا إلى مبادرة لتنظيم مهرجان للقراءة، أطلقوا عليه اسم "أنا عراقي أنا أقرأ"، بحسب سعد جميل، أحد الشباب المساهمين في انطلاق هذه المبادرة.

يقول جميل لـ "العربي الجديد" إنّه علم من صديق له بوجود نية لإطلاق مهرجان يدعو المجتمع إلى القراءة واقتناء الكتب للمطالعة، فقرر أن يدعم المبادرة بمشاركة فاعلة: "لا أتخيل أنّ هناك مثقفاً شاباً أو كبيراً في السن علم بهذه المبادرة منذ انطلاقها في عام 2012 ولم يدعمها بطريقة ما". يشير إلى أنّ المهرجان منذ انطلاقته السنوية الأولى، اعتمد على التبرعات والمتطوعين "في أول نسخة من المهرجان جمعنا أكثر من 3 آلاف كتاب تبرع بها أصحاب مكتبات وباعة كتب ومثقفون، وأهديت للقراء".

القائمون على المبادرة هذه تشجعوا كثيراً حين رأوا النجاح الكبير الذي حققوه، لتتضاعف أعداد الكتب المقدمة من المتبرعين، كما تضاعفت أعداد المشاركين والحاضرين والفعاليات. وفي آخر نسخة في إبريل/نيسان الماضي وزع المهرجان 25 ألف كتاب على الحاضرين مجاناً، بحسب جميل.

كذلك، مرّ العراق، صيف العام الماضي، بأزمة شحّ مياه، أثرت على مناطق متفرقة من البلاد، لا سيما في الجنوب، إذ شهدت بعض الأهوار "المسطحات المائية" التي تعتمد على نهر دجلة جفافاً لافتاً، فيما جفت بعض المسطحات بشكل نهائي، ما أدى إلى نزوح العديد من الأسر العراقية من المزارعين، بسبب تضررهم وموت مواشيهم، وأبرزها الجاموس الذي يعيش في المناطق المائية.

تنتظرن الحصول على طعام (العربي الجديد) 


يقول عبد السلام جمعة، وهو ناشط بيئي، إنّ "مجموعة كبيرة من الناشطين والمثقفين تبنّوا حملات مكثفة لبيان الضرر الذي يتعرض له العراق، خصوصاً في مناطقه الجنوبية من جراء تقليل دول مجاورة لحصة العراق من المياه الداخلة عبر الأنهر إلى البلاد، في وقت كان المطر شحيحاً الصيف الماضي، يرافقه ارتفاع كبير في درجات الحرارة، ما تسبب في جفاف مساحات واسعة من الأهوار؛ وهو ما يهدد السكان والبيئة بخطر كبير".

يتابع لـ "العربي الجديد": "نجحنا في ما لم تنجح المؤسسات الحكومية فيه. كان صوتنا أقوى. ومناشداتنا واتصالاتنا ورسائلنا كلّها وصلت إلى مختلف الدول والمؤسسات والمنظمات الدولية المهمة المؤثرة، ولم تنفذ تركيا قرارها بقطع حصة العراق من المياه لأجل ملء سدودها".

"ثورتان" في الموصل

الموصل التي تحررت من تنظيم "داعش" بالكامل عام 2017، بعد ثلاث سنوات من سيطرته عليها، شهدت حملات تطوعية شبابية عديدة منذ ذلك الحين، سعياً لإعادتها للحياة. كانت "ثورة الدنابر" واحدة من أبرز المبادرات التطوعية، ليس فقط على مستوى البلاد، بل على مستوى الوطن العربي، إذ توج القائمون على المبادرة بجائزة "أفضل عمل تطوعي"، وذلك في مبنى الجامعة العربية بالقاهرة في العام الماضي.



و"الدنابر" هي العربات الصغيرة التي تحوي أحواضاً في المقدمة، وتستخدم عادة في المناجم وأعمال الحفر وتتواجد بكثرة في العراق. وتهدف الحملة التي استخدم فيها هذا النوع من العربات من قبل الناشطين والمتطوعين إلى رفع الأنقاض من مناطق الموصل القديمة، التي لا يمكن دخول السيارات إلى أزقتها الضيقة، فاستعان المتطوعون بعجلات حوضية لرفع الأنقاض ونقلها، وتمكنت من خلال عملهم مئات العائلات من العودة إلى مناطقها التي كانت محرومة منها بسبب تراكم مخلفات المعارك والأحجار الناتجة عن هدم المباني.

في الموصل أيضاً، بعد حادثة العبارة التي وقعت يوم 21 مارس/آذار الماضي، وتسببت في غرق أكثر من 200 شخص في نهر دجلة، أطلق أصحاب زوارق صيد، مبادرة "ثورة الزوارق" للمساعدة في انتشال الجثث. يقول خيري الجبوري، صاحب الفكرة، إنه ورفاقه ما زالوا حتى اليوم يخرجون للبحث عن جثث، مبيناً: "بدأنا مهمتنا منذ اليوم الأول لغرق العبارة ومستمرون حتى الآن". يضيف لـ "العربي الجديد": "فريقنا مؤلف من صيادي أسماك قدامى ولديهم خبرة بطبيعة نهر دجلة" مشيراً إلى أنّ "أهالي الضحايا يتواصلون معنا يومياً للسؤال عن آخر أخبار البحث، لا سيما بعد توقف جميع عمليات البحث من قبل الغواصين الرسميين والشرطة النهرية، وبدأ اليأس يخيم على أهالي الضحايا".