تطالع المصريين أخبارٌ من حين إلى آخر حول جرائم قتل على خلفية قضايا ميراث. ولعلّ تلك الحوادث مؤلمة، إذ تقع تلك الجرائم في قلب عائلة واحدة وبين أشقاء.
قبل أيام، قتل مزارع بمحافظة أسيوط في صعيد مصر شقيقه وزوجته وابنَيهما الصغيرَين، بعدما استهدفهم بثلاثين طلقة نارية من بندقية آليّة، على خلفيّة الميراث. وقد أعادت هذه الجريمة فتح ملف الخلافات الأسرية في مصر، لا سيّما في صعيدها. ويأتي ذلك في ظلّ الاستهتار في تطبيق القانون واللجوء إلى العادات والتقاليد أكثر من الاعتماد على القيم والأخلاق وتغييب أحكام الشريعة الإسلامية في الميراث، الأمر الذي يعدّه خبراء وأهل اختصاص خطراً يهدد المجتمع، وسط تصاعد الأزمة الاقتصادية والتناحر على لقمة العيش بين المصريين.
تفيد إحصاءات رسمية أعدّتها وزارة العدل المصرية بأنّ المحاكم تنظر سنوياً في نحو 223 ألف قضية نزاع على الميراث، 70 في المائة من تلك القضايا في محافظات صعيد مصر. ويشير خبراء في السياق إلى أنّ البطء في حسم ملفات الميراث جعل بعض الأشخاص يعمدون إلى القوّة، منها السلاح، للحصول على حقّهم أو ما يعدّونه كذلك. وثمّة من يستولي على حقوق أشقاء له، خصوصاً شقيقاته، من خلال اللجوء إلى القتل. وبيّن عدد من الإحصاءات أنّ جرائم القتل بسبب الميراث في مصر تتخطّى سنوياً تسعة آلاف جريمة، معظمها في محافظات الصعيد، في حين تُسجَّل مطالب بزيادة عدد الدوائر القضائية التي تنظر في قضايا الميراث، لحسمها وسرعة الفصل فيها، بهدف منع الجرائم المرتبطة بالميراث والمتزايدة في خلال الأعوام الأخيرة.
بعيداً عن القتل، يعمد أشخاص إلى مصادرة حقوق أشقائهم في الميراث (أراضٍ وعقارات) ويلجأ بالتالي كثيرون إلى القضاء للمطالبة بحقوقهم. في السياق، يكشف باحث قضائي، فضّل عدم الكشف عن هويته، لـ"العربي الجديد"، أنّ قانون الميراث في مصر "في إجازة" وهو لا يُطبّق على أرض الواقع لحلّ مشكلات الميراث. وإذ يوضح أنّ "مجلس النواب وافق أخيراً على قانون المواريث"، فإنّه يتوقّع "عدم تأثيره على أرض الواقع"، لافتاً إلى أنّ "البطء في التقاضي الذي يستمرّ لأعوام طويلة قبل أن يُحسَم الأمر (المعلّق)، يدفع صاحب الحقّ أحياناً إلى اللجوء إلى وسائل أخرى من بينها القتل للحصول على حقّه المسلوب من قبل شقيق له (على سبيل المثال). وهذا النوع من الجرائم ازدادت وتيرته في الآونة الأخيرة".
ويشرح الباحث القضائي نفسه أنّ "القانون الجديد نصّ على تحديد عقوبة الحبس بمدّة لا تقلّ عن ستّة أشهر وبغرامة لا تقلّ عن 20 ألف جنيه مصري (نحو 1200 دولار أميركي) ولا تجاوز 100 ألف جنيه (نحو ستّة آلاف دولار) أو بإحدى هاتَين العقوبتَين، لكلّ من امتنع عن تسليم أحد الورثة نصيبه الشرعي من الميراث"، متسائلاً "أين هذا القانون من تطبيقه؟ فصاحب الحقّ يدور سبع لفّات بين المحاكم من أجل الحصول على حقّه. وعندما يحصل على حكم، فإنّه قد يبقى من دون تنفيذ".
وتُعَدّ المرأة من أكثر المظلومين في ما يتعلّق بالميراث، إذ إنّ حالات تعنّت كثيرة تُسجَّل من جانب أشقّائها الذكور حتى لا تحصل على حقّها من ميراث والدها. ويعود عدم إعطاء المرأة حقّها من الميراث في الصعيد، إلى رغبة أشقائها الذكور في الاحتفاظ بالملكية الزراعية. بحسب معتقداتهم، فإنّ توريث المرأة سوف "يفتّت" ممتلكات الأسرة ويضع بعضها في أيدي رجل آخر من عائلة تنافسهم ربّما على زعامة أو ثروة. كذلك، ثمّة من يرى أفضليّة توريث الذكور، فضلاً عن طمع البعض وتبرير استباحة حقوق الآخرين.
ويرى أساتذة في علم الاجتماع وكذلك علماء دين أنّ خلافات الميراث التي تصل إلى القتل أحياناً إنّما تأتي نتيجة عوامل اقتصادية وضعف في الوازع الديني. فينتقد الخبير في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، الدكتور سيد إمام "انتشار كل أنواع الأسلحة في صعيد مصر، إذ إنّ ذلك صار وسيلة للقتل على خلفية الانتقام، ومن بين الحالات قضايا الميراث". يضيف إمام لـ"العربي الجديد" أنّ "غض الطرف من قبل الدولة عن قضية انتشار السلاح هو حافز لازدياد جرائم القتل. أمّا عدم البتّ في قضايا الميراث في المحاكم وعدم تطبيق العقوبات الرادعة في السياق، خصوصاً في محافظات صعيد مصر، فمن شأنهما أن يفاقما الخلل ويؤديا إلى احتقان في داخل الأسرة الواحدة"، مشدداً على "أهمية الالتزام بشرع الله في الميراث الذي أنزلت به نصوص واضحة في القرآن الكريم". ويتابع إمام أنّ "العادات والتقاليد صارت أقوى من الشرع بسبب انعدام الوعي الديني، بالتالي من الضرورة التنبيه حول قضية ميراث المرأة في خطب الجمعة والمجالس الدينية ودروس الوعظ والإعلام".
من جهته، يعيد الشيخ جمال قطب، وهو من علماء الأزهر، "انتشار جرائم القتل في مصر بسبب الميراث إلى غياب الوازع الديني". ويشرح لـ"العربي الجديد" أنّ "الجاني وكذلك المجني عليه ربما لا يريدان تطبيق شرع الله في ما يتعلق بحقوق المواريث، علماً أنّ ثمّة نصوصا كثيرة في القرآن الكريم والسنّة النبوية تحدّد نظام الميراث ولا تحتاج بذلك التوجّه إلى القضاء". ويطالب قطب بـ"ضرورة تضافر جهود كل المؤسسات لمعالجة هذا النوع من الجرائم"، مشدداً على أنّ "الدم محرّم حرمة قطعية في كل الشرائع السماوية". يضيف قطب: "بالتالي ثمّة ضرورة لحلّ كلّ المشكلات التي تنجم عنها جرائم على خلفية النزاع حول الميراث، خصوصاً في صعيد مصر، من خلال لجان مصالحات، حتى لا يصل الأمر إلى اللجوء إلى القتل بهدف الحصول على الميراث".