ينتشر استخدام السلاح بكثرة بين العائلات في صعيد مصر لأسباب عديدة، منها الثأر في ظلّ كثرة الخلافات بين الأهالي، والتباهي في حفلات الزفاف، واستعراض القوة، الأمر الذي ساهم في انتشار عصابات التهريب وازدهار هذه التجارة. ويؤدي انتشار السلاح إلى حوادث مأسوية في أحيان كثيرة
أثار مقتل أربعة أفراد في محافظة سوهاج في صعيد مصر، قضية انتشار الأسلحة في محافظات الصعيد. وحدث أن أطلق مزارع وابلاً من الرصاص على أربعة أشخاص نتيجة خلافات سابقة. بعض هذه الأسلحة يصل إلى الداخل عن طريق التهريب، إضافة إلى وجود ورش في القرى والمدن يتولى أصحابها صناعة الأسلحة المتطورة وبيعها للأهالي علناً.
ويعدّ اقتناء السلاح في الصعيد هوساً لدى أبناء القرى، في ظل كثرة الخصام بين العائلات والثأر. وأصبح اقتناء السلاح كالنار في الهشيم بين العائلات والقبائل المتناحرة بسبب كثرة انتشاره، ليستفيد أرباب تلك التجارة من الأمر وقد أغرقوا الصعيد بأنواع مختلفة من الأسلحة. وتؤكد تقارير أمنية، أن حجم تجارة السلاح في الصعيد يتجاوز العشرين مليار جنيه. ويكشف مسؤول أمني أن الجهات الأمنية في أقسام الشرطة في محافظات الصعيد، تخشى الدخول في خلافات مع من هم على رأس العائلات، خوفاً على حياتها بسبب امتلاكها (العائلات) السلاح. من جهة أخرى، تعمد عائلات إلى مصادقة الضباط حتى لا يعتقل من يحمل السلاح.
ويشير المسؤول إلى أنه في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، أنشأت الورش في عشرات القرى في الصعيد لصناعة الأسلحة، يديرها عدد من الشبان العاطلين من العمل. ومع تزايد الأرباح بسبب بيع الأسلحة، انتشرت عصابات التهريب. هذه العصابات تستخدم السيارات الحديثة الرباعية الدفع ووسائل اتصال متطورة، لافتاً إلى أن المدقّات الجبلية بين الحدود المصرية والليبية تعدّ من أبرز طرقات تهريب السلاح إلى داخل مصر، ليبدأ انتشاره وتوزيعه في المناطق المختلفة داخل البلاد.
ووصل الأمر ببعض الأهالي في الصعيد إلى إنشاء "سراديب" في جدران منازلهم لإخفاء قطع السلاح، لعدم الكشف عنها في حال وجود حملات أمنية. ويكشف الحاج أبو الحسن محمد من محافظة سوهاج، أنه في حال شنّت حملات أمنية سيادية على السلاح، سواء من وزارة الداخلية أو قطاع الأمن العام، تسلّم قطع سلاح خردة إلى الشرطة حتى يتوقف أفرادها عن التفتيش. ويوضح أن هناك تعاوناً بين بعض الأهالي من أصحاب السطوة والشرطة على حمل السلاح، كنوع من الدفاع عن النفس أو إظهار التباهي. والسلاح يلازم صاحبه كظله، ما يعدّ مؤشراً على أن هؤلاء فوق القانون، ولا يستطيع أحد الاقتراب منهم.
يضيف الحاج أبو الحسن، أنّ الإقبال الكبير من المواطنين على حمل السلاح أدى إلى ازدهار التجارة، مشيراً إلى أن السلاح ينتشر بشكل كبير في القرى، من دون أن يكون للبيئة الاجتماعية أو الدرجة العلمية أي تأثير. وقد يبيع مزارع أرضه أو ماشيته أو الحُليّ الخاصة بزوجته لشراء السلاح، إذ لا يمكن العيش من دون اقتنائه. ويطالب بتكثيف الحملات الأمنية لضبط الأسلحة في المنازل، حفاظاً على أرواح الشباب والأطفال.
كذلك، يرى أنه يجب على جميع العائلات أن تتفق على تسليم السلاح لإنهاء ظاهرة الثأر التي ازدادت حدّتها، على الرغم من ارتفاع مستوى التعليم بين الشباب، منوهاً بأن "أفراح الصعيد" تكشف حجم الأسلحة الموجودة، علماً أن الأفراح مرتبطة باستخدام السلاح وإطلاق النار للتباهي. وتتنافس العائلات على إطلاق النار في الأفراح، ما يؤدي في أحيان كثيرة إلى حوادث مأسوية والموت. ويرى أن إطلاق النار في الأفراح دليل على تواطؤ الأمن في حمل السلاح.
إلى ذلك، تفيد تقارير للمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، بأنّ محافظات الصعيد سقطت من ذاكرة الأنظمة المصرية، وقد تجاهلت الحكومات المتعاقبة الصعيد، ما دفع البعض إلى الهجرة بحثاً عن الرزق، ليصبح الصعيد مكاناً خصباً لرواج تجارة السلاح. العائلات تقتني السلاح بسبب عقيدة راسخة مفادها أن السلاح مكمن القوة والردع لكلّ من تسول له نفسه الاعتداء على العائلة أو مسّها بسوء. وبعض العائلات تعلّم صغارها حمل السلاح وكيفية إطلاق النار. وتتعدّد أنواع الأسلحة في صعيد مصر بين الجيرنوف والهاون والرشاش والروسي والآلي والطبنجات بأنواعها المختلفة، ومضادّ الطائرات. ولا يتجاوز ضبط الأسلحة من الشرطة 2 في المائة، لأنواع غير فعّالة.
وتختلف أسعار الأسلحة النارية. فهناك الرشاش البلجيكي "الجيرنوف" وهو باهظ الثمن وسعته ألف طلقة، ويصل سعره إلى 26 ألف جنيه (نحو 1500 دولار)، والروسي ما بين 11 ألف (نحو 624 دولاراً) و12 ألف جنيه (681 دولاراً). أما الرشاش بأنواعه المختلفة، فيبدأ سعره من 20 ألف جنيه (نحو 1135 دولاراً)، والبنادق الآلية تبدأ من 10 آلاف جنيه (نحو 567 دولاراً) حسب نوعها، والطبنجة (المسدس) ما بين 13 ألفاً (نحو 738 دولاراً) و15 ألف جنيه (نحو 850 دولاراً). أما "الآر بي جي" الذي بدأت عمليات تهريبه تنشط خلال الفترة الأخيرة، فيعدّ الأعلى سعراً، ويبدأ من 180 ألفاً (نحو 10 آلاف دولار) ويصل إلى 240 ألف جنيه (نحو 13 ألفاً و600 دولار)، إضافة إلى أسلحة نارية أخرى.
ويرى الخبير الأمني اللواء عبد الستار نصير، أن الأجهزة الأمنية يجب أن يكون لها دور حيوي في مواجهة الأزمة، من خلال تعزيز دورها في القضاء على ظاهرة انتشار السلاح في الصعيد، وتفعيل دور القضاء، وتمكينها من أداء واجباتها ومهامّها بعيداً عن الضغوط القبلية والسياسية، وإيقاع أقصى العقوبات على من تسول له نفسه ارتكاب مثل هذه الجرائم حتى يكون عبرة لغيره، وعدم الارتكاز على الجلسات العرفية، علاوة على نشر العدالة في الريف المصري من خلال عدم التهميش الإعلامي له والاهتمام بمشاكله والعمل على حلّها.
من جهتها، ترى أستاذة علم الاجتماع في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية عزة كريم، أن العزلة الاجتماعية لأبناء الجنوب وقلة الاهتمام السياسي والاقتصادي والثقافي بهم، كلّها عوامل تؤدي إلى انتشار العنف والسلاح من دون رقابة حكومية، نتيجة استمرار الثأر. وتشير إلى رفضها حمل السلاح للتباهي بين العائلات، مضيفة أن ضعف الإدارة الحكومية ولجوء البعض إلى حل الأزمات من خلال عقد جلسات أثبتت أنها لا تحدّ من الثأر، ولا تقضي على المشكلة بل تسكّنها لبضع سنوات. وتوضح أن القضاء على ظاهرة الثأر يحتاج إلى اتباع عدد من الخطوات، تبدأ من تعزيز الالتزام الديني لدى الأفراد، علاوة على أداء الدولة للقيام بواجباتها تجاه المجتمع من خلال نشر الوعي بين أبناء الجنوب، وتعزيز الخدمات المقدمة لهم، لتمكينهم من الاطلاع على ثقافات مختلفة.