ساحة التحرير في العراق لم تعد ساحة عادية، بل باتت ساحة الوطنية والألفة والخير وأحلام الشباب، الذين يدركون أنهم يصنعون مستقبلاً جديداً لبلادهم. حتى النساء يطهون الطعام ويوزعنه على المتظاهرين. التكافل الاجتماعي والخدمات تطغى على الساحة... والحب أيضاً
قبل حلول الليل، تبدأ ساحة التحرير ومحيطها، حيث الاحتجاجات المستمرة منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي في العاصمة العراقية بغداد، باستقبال أعداد كبيرة من المواطنين والعائلات للمشاركة في التعبير عن الرأي والتضامن مع المحتجين. ويلجأون إلى وسائل عدة للتعبير عن احتجاجاتهم وتضامنهم، ويقضي بعضهم ساعات قليلة في المكان، فيما يستمرّ آخرون حتى ساعات الفجر الأولى.
وبات لمن يقبل على المكان طقوس خاصة، قلّما يغيرونها، وجميعهم يرون أنهم من خلال هذه الطقوس الليلية يدفعون الشباب المقيمين على مدار اليوم في هذا المكان إلى الصمود، حتى تحقيق المطلب الرئيسي الذي أصبح ينادي به جميع المحتجين في البلاد، وهو رحيل الحكومة والطبقة السياسية الحاكمة.
ومن المشاهد التي تبرز في هذا المكان الذي يعجّ مساء كل يوم بآلاف الناس، الأطفال الذين يأتون برفقة ذويهم، وأصبح بعضهم يصرّ مساء كل يوم على الذهاب إلى موقع الاحتجاج، بحسب مها رباح التي تصطحب وجاراتها أطفالهما بشكل شبه يومي إلى المكان. وتقول لـ"العربي الجديد": "المكان يتحول ليلاً إلى ما يشبه الكرنفال، هناك تجمعات مختلفة لشباب يغنون وآخرون يهتفون وغيرهم يرسمون، إضافة إلى أشياء أخرى تجعل المكان تجمعاً فنياً وثقافياً واجتماعياً". تضيف: "الأطفال يستأنسون بإضاءة الشموع على أرواح شهداء التظاهرات، ولا بد أن يذهبوا بجولة في التوكتوك تأخذهم داخل منطقة الاحتجاج".
عجلات التوكتوك تُركن في مواقع مختلفة داخل المكان، وتعرض خدماتها المجانية لنقل الأشخاص، وغالباً هم من ينقل الأشخاص في داخل موقع الاحتجاج وبين أطرافه، ولا سيما أن موقع الاحتجاج أخذ يتسع منذ أيام بعدما سيطر المحتجون على جسر السنك. ويقول حيدر كاظم، وهو سائق توكتوك لـ"العربي الجديد"، إنه وجميع زملائه يعتمدون شعار: "في خدمة المتظاهرين وزائري موقع التظاهر"، مؤكداً أنهم نذروا أنفسهم لهذا العمل. يضيف: "كثيرون يحبون أن يتجولوا في المكان من خلال ركوب التوكتوك، ولا سيما كبار السن والأطفال، ونحن نوفر لهم هذه الخدمة".
وتحول التوكتوك إلى رمز مهم من رموز احتجاجات العراق، بسبب موقف أصحاب هذه العجلة الصغيرة لمساندة المحتجين، وأخذوا على عاتقهم التحول إلى سيارات إسعاف لنقل القتلى والجرحى، غير مبالين بالرصاص الحيّ والقنابل المسيلة للدموع التي كانت تواجه بها القوات الأمنية المحتجين، فضلاً عن نقلهم المؤن والمتظاهرين مجاناً.
اقــرأ أيضاً
وخصّصت مساحة داخل موقع الاحتجاج لـ "الشهداء" الذين سقطوا من جراء استخدام القوات الأمنية العنف، تضم أقنعة الغاز والأعلام لمن قتلوا وصوراً لعدد منهم. يتوقف الناس أمامها لبرهة يقرأون الفاتحة على أرواح القتلى الذين يرمز إليهم هذا الموقع، وبعضهم يوقدون الشموع على أرواحهم.
شيرين فؤاد، تطلق على هذا المكان اسم "مقام الشهداء"، وتقول لـ"العربي الجديد" إن هذا المكان من أهم المواقع التي تحرص على زيارتها حين تقدم إلى ساحة التحرير. شيرين، وهي في المرحلة الثانوية، اتخذت عدداً من الخطوات دعماً للاحتجاجات، أولها كان إضرابها عن الدوام في مدرستها. وتقول: "رأيت أنّ من واجبي أن أنتصر لدماء الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم وهم يطالبون بمستقبل أفضل. كل يوم أزور هذا المكان وأقرأ الفاتحة على أرواحهم، وأقرأ القرآن أيضاً. التقيت بعدد من أمهات وشقيقات شهداء، كنت أقبلهن وأواسيهن على فقدهن هؤلاء الأبطال".
إضاءة الشموع على أرواح ضحايا الاحتجاجات طقس يميز ليل ساحات التظاهر، وقراءة القرآن أيضاً، بالإضافة إلى توزيع الخيرات على أرواح هؤلاء الضحايا.
وتحرص مديحة عبد الرحمن على توزيع "الخيرات على أرواح الشهداء" كل يوم حين تجيء مساءً إلى ساحة التحرير.
هذه المرأة وهي في العقد الخامس من العمر، فقدت ولدها البكر في معركة مع تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" عام 2016، الذي كان جندياً ضمن صفوف القوات العراقية. وتقول لـ"العربي الجديد": "أرى كل شهيد ابني. هؤلاء ليس لهم ذنب سوى أنهم طالبوا بحقوقهم وحقوق شعبهم".
تصنع مديحة حلوى "الزردة" المعروفة في العراق، وتوزع نوعاً من الكعك والمعجنات، مضيفة: "أوزع ما أصنعه هنا على الناس لكي يدعوا لأولادنا بالرحمة والمغفرة، ولكي ينظر الله إلى أبنائنا المتظاهرين ويحفظهم".
بعيداً عن مشاهد الحزن واستذكار ضحايا الاحتجاجات، المكان يضجّ بالفرح. يتجمع شباب هنا وهناك ويلقون الأهازيج أو الأغاني الوطنية، في وقت يرسم فيه آخرون على الجدران في حملة تطوعية لتجميل المكان برسومات تعبّر عن الاحتجاجات ومستقبل مشرق يتخيلونه لوطنهم. وحوّلت الإنارة التي وضعها المتظاهرون في وسط ومحيط ساحة التحرير الليل إلى أشبه بالنهار، بينما الإنارة الليزرية التي يطلقها المتظاهرون في مبنى المطعم التركي أضفت طابعاً جميلاً على المكان.
اقــرأ أيضاً
حسان بشير (57 عاماً)، يقول لـ "العربي الجديد" إنه يحرص على أن يحضر مساء كل يوم إلى ساحة التحرير برفقة أسرته، مشيراً إلى أنه يتفرغ للقراءة، وأحياناً يجد ضالته في الحديث عن تاريخ العراق الحديث، تخصصه الذي يكرس بحوثه وقراءاته فيه مع أشخاص داخل المكان. يضيف: "أفراد أسرتي يفضلون التجوال داخل المكان. هنا كل شيء ممتع. نشاهد الشباب يصنعون حلمهم بمستقبل جميل. لذلك، إنّ من يتجول يرى أحلام هؤلاء الشباب".
يتابع: "لا أعلم ماذا يفعل باقي أفراد عائلتي، لكنني على ثقة بأنهم ينتفعون من قضاء وقتهم هنا أو يمارسون شيئاً نافعاً للآخرين. فكل يوم زوجتي تساعد نساءً في إعداد الخبز والطعام، أو في عمل تطوعي تؤديه برفقة أخريات تعرفت إليهن هنا، ويلتقين كل يوم. كذلك تعرّف ولداي وابنتي إلى أصدقاء جدد، وهم يؤدون معاً أعمالاً خدماتية. إنهم سعداء جداً بما يفعلونه. حين نعود يتحدثون عمّا فعلوه وعن أصدقائهم. لقد تغيرت طبيعة حياتهم منذ بدأوا بالقدوم إلى ساحة التحرير. أصبحوا أكثر وطنية من ذي قبل، فجُلُّ حديثهم عن مستقبل البلد وما يدور في أروقة السياسة والأحزاب، وهذه أمور لم يكونوا يفقهونها من قبل".
وبات لمن يقبل على المكان طقوس خاصة، قلّما يغيرونها، وجميعهم يرون أنهم من خلال هذه الطقوس الليلية يدفعون الشباب المقيمين على مدار اليوم في هذا المكان إلى الصمود، حتى تحقيق المطلب الرئيسي الذي أصبح ينادي به جميع المحتجين في البلاد، وهو رحيل الحكومة والطبقة السياسية الحاكمة.
ومن المشاهد التي تبرز في هذا المكان الذي يعجّ مساء كل يوم بآلاف الناس، الأطفال الذين يأتون برفقة ذويهم، وأصبح بعضهم يصرّ مساء كل يوم على الذهاب إلى موقع الاحتجاج، بحسب مها رباح التي تصطحب وجاراتها أطفالهما بشكل شبه يومي إلى المكان. وتقول لـ"العربي الجديد": "المكان يتحول ليلاً إلى ما يشبه الكرنفال، هناك تجمعات مختلفة لشباب يغنون وآخرون يهتفون وغيرهم يرسمون، إضافة إلى أشياء أخرى تجعل المكان تجمعاً فنياً وثقافياً واجتماعياً". تضيف: "الأطفال يستأنسون بإضاءة الشموع على أرواح شهداء التظاهرات، ولا بد أن يذهبوا بجولة في التوكتوك تأخذهم داخل منطقة الاحتجاج".
عجلات التوكتوك تُركن في مواقع مختلفة داخل المكان، وتعرض خدماتها المجانية لنقل الأشخاص، وغالباً هم من ينقل الأشخاص في داخل موقع الاحتجاج وبين أطرافه، ولا سيما أن موقع الاحتجاج أخذ يتسع منذ أيام بعدما سيطر المحتجون على جسر السنك. ويقول حيدر كاظم، وهو سائق توكتوك لـ"العربي الجديد"، إنه وجميع زملائه يعتمدون شعار: "في خدمة المتظاهرين وزائري موقع التظاهر"، مؤكداً أنهم نذروا أنفسهم لهذا العمل. يضيف: "كثيرون يحبون أن يتجولوا في المكان من خلال ركوب التوكتوك، ولا سيما كبار السن والأطفال، ونحن نوفر لهم هذه الخدمة".
وتحول التوكتوك إلى رمز مهم من رموز احتجاجات العراق، بسبب موقف أصحاب هذه العجلة الصغيرة لمساندة المحتجين، وأخذوا على عاتقهم التحول إلى سيارات إسعاف لنقل القتلى والجرحى، غير مبالين بالرصاص الحيّ والقنابل المسيلة للدموع التي كانت تواجه بها القوات الأمنية المحتجين، فضلاً عن نقلهم المؤن والمتظاهرين مجاناً.
وخصّصت مساحة داخل موقع الاحتجاج لـ "الشهداء" الذين سقطوا من جراء استخدام القوات الأمنية العنف، تضم أقنعة الغاز والأعلام لمن قتلوا وصوراً لعدد منهم. يتوقف الناس أمامها لبرهة يقرأون الفاتحة على أرواح القتلى الذين يرمز إليهم هذا الموقع، وبعضهم يوقدون الشموع على أرواحهم.
شيرين فؤاد، تطلق على هذا المكان اسم "مقام الشهداء"، وتقول لـ"العربي الجديد" إن هذا المكان من أهم المواقع التي تحرص على زيارتها حين تقدم إلى ساحة التحرير. شيرين، وهي في المرحلة الثانوية، اتخذت عدداً من الخطوات دعماً للاحتجاجات، أولها كان إضرابها عن الدوام في مدرستها. وتقول: "رأيت أنّ من واجبي أن أنتصر لدماء الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم وهم يطالبون بمستقبل أفضل. كل يوم أزور هذا المكان وأقرأ الفاتحة على أرواحهم، وأقرأ القرآن أيضاً. التقيت بعدد من أمهات وشقيقات شهداء، كنت أقبلهن وأواسيهن على فقدهن هؤلاء الأبطال".
إضاءة الشموع على أرواح ضحايا الاحتجاجات طقس يميز ليل ساحات التظاهر، وقراءة القرآن أيضاً، بالإضافة إلى توزيع الخيرات على أرواح هؤلاء الضحايا.
وتحرص مديحة عبد الرحمن على توزيع "الخيرات على أرواح الشهداء" كل يوم حين تجيء مساءً إلى ساحة التحرير.
هذه المرأة وهي في العقد الخامس من العمر، فقدت ولدها البكر في معركة مع تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" عام 2016، الذي كان جندياً ضمن صفوف القوات العراقية. وتقول لـ"العربي الجديد": "أرى كل شهيد ابني. هؤلاء ليس لهم ذنب سوى أنهم طالبوا بحقوقهم وحقوق شعبهم".
تصنع مديحة حلوى "الزردة" المعروفة في العراق، وتوزع نوعاً من الكعك والمعجنات، مضيفة: "أوزع ما أصنعه هنا على الناس لكي يدعوا لأولادنا بالرحمة والمغفرة، ولكي ينظر الله إلى أبنائنا المتظاهرين ويحفظهم".
بعيداً عن مشاهد الحزن واستذكار ضحايا الاحتجاجات، المكان يضجّ بالفرح. يتجمع شباب هنا وهناك ويلقون الأهازيج أو الأغاني الوطنية، في وقت يرسم فيه آخرون على الجدران في حملة تطوعية لتجميل المكان برسومات تعبّر عن الاحتجاجات ومستقبل مشرق يتخيلونه لوطنهم. وحوّلت الإنارة التي وضعها المتظاهرون في وسط ومحيط ساحة التحرير الليل إلى أشبه بالنهار، بينما الإنارة الليزرية التي يطلقها المتظاهرون في مبنى المطعم التركي أضفت طابعاً جميلاً على المكان.
حسان بشير (57 عاماً)، يقول لـ "العربي الجديد" إنه يحرص على أن يحضر مساء كل يوم إلى ساحة التحرير برفقة أسرته، مشيراً إلى أنه يتفرغ للقراءة، وأحياناً يجد ضالته في الحديث عن تاريخ العراق الحديث، تخصصه الذي يكرس بحوثه وقراءاته فيه مع أشخاص داخل المكان. يضيف: "أفراد أسرتي يفضلون التجوال داخل المكان. هنا كل شيء ممتع. نشاهد الشباب يصنعون حلمهم بمستقبل جميل. لذلك، إنّ من يتجول يرى أحلام هؤلاء الشباب".
يتابع: "لا أعلم ماذا يفعل باقي أفراد عائلتي، لكنني على ثقة بأنهم ينتفعون من قضاء وقتهم هنا أو يمارسون شيئاً نافعاً للآخرين. فكل يوم زوجتي تساعد نساءً في إعداد الخبز والطعام، أو في عمل تطوعي تؤديه برفقة أخريات تعرفت إليهن هنا، ويلتقين كل يوم. كذلك تعرّف ولداي وابنتي إلى أصدقاء جدد، وهم يؤدون معاً أعمالاً خدماتية. إنهم سعداء جداً بما يفعلونه. حين نعود يتحدثون عمّا فعلوه وعن أصدقائهم. لقد تغيرت طبيعة حياتهم منذ بدأوا بالقدوم إلى ساحة التحرير. أصبحوا أكثر وطنية من ذي قبل، فجُلُّ حديثهم عن مستقبل البلد وما يدور في أروقة السياسة والأحزاب، وهذه أمور لم يكونوا يفقهونها من قبل".