"جينا من بيروت نثور كرمال صور". ويحيّي المحتجّون الشابة التي حملت تلك اللافتة وربطت وشاح العلم اللبنانيّ حول ذراعها وراحت تردّد "صور صور صور... كرمالِك عم نثور". في التسجيل الذي يتناقله ناشطون لبنانيّون عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ منذ الأيّام الأولى لانتفاضة لبنان، كانت الشابة وتُدعى ريتا قد انتقلت مع رفاق لها من العاصمة اللبنانيّة وكذلك من طرابلس عاصمة الشمال اللبنانيّ إلى صور الجنوبيّة للتعبير عن تضامنهم مع تلك المدينة ومع أهلها الذين يتعرّضون إلى قمع وترهيب.
ليست ساحة صور الوحيدة التي قصدها لبنانيّون منتفضون من مناطق أخرى، لمشاركة مواطنيهم الثورة، منذ السابع عشر من أكتوبر/ تشرين الأوّل الماضي. الساحات الأخرى استقبلت كذلك أبناء الوطن باختلافهم وقد رُفعت فيها لافتات تعلن تضامن الشعب مع الشعب تحت راية العلم اللبنانيّ وشعار "كلّن يعني كلّن" وعلى وقع أغانٍ وأناشيد وطنيّة واحدة.
على ساحتَي "إيليا" في صيدا (جنوب) و"النور" في طرابلس، تتردّد رشا عيسى (43 عاماً) منذ بداية التحرّكات، بحكم تنقّلها بين المدينتَين. "الجوّ هو نفسه في الساحتَين، لجهة الحماسة والأفكار والهتافات والأغاني"، بحسب رشا التي ترى "ضرورة التنسيق بين الساحات كلّها. فمن شأن ذلك أن يجعل الحراك أكثر صلابة، على سبيل المثال قطع الطرقات أو الاعتصام أمام المرافق العامة والمؤسّسات المستهدفة وما إليها في الوقت نفسه". بالنسبة إليها، النزول إلى الشارع هو "من أجل ابنتَيّ، ومن أجل الوطن، ولأنّ الفساد المستشري استفزّني إلى أقصى الدرجات. طفح الكيل. ثمّة وقاحة كبيرة والوضع لم يعد يُحتمَل". وفي حين لا تخفي أنّ "ثمّة خوفاً في الساحتَين من خروقات وتدخّلات وافتعال مشكلات، بالتالي لا بدّ من الحذر"، تلفت إلى إصرارها على "رؤية النصف الملآن من الكوب. ما يحصل أشبه بكرة ثلج، فالتغيير حصل وما بعد 17 أكتوبر/ تشرين الأوّل 2019 ليس كما قبله". وتحرص رشا على القول: "لستُ حزبيّة ولم أنتمِ في يوم إلى أيّ من الأحزاب في لبنان ولن أفعل ولن أسمح لابنتَيّ بفعل ذلك، فتجارب الأحزاب في لبنان غير مشجّعة... لا بل هي سيّئة جدّاً".
في "ساحة النور" (ساحة عبد الحميد كرامي) في طرابلس، قد تكون رشا هتفت مع كمال الدويهي (22 عاماً) واحداً من شعارات الثورة. وكمال طالب جامعيّ من زغرتا (شمال) اعتاد التنقّل في الشهر الأخير ما بين طرابلس وبيروت وجلّ الديب (وسط)، والهدف من ذلك "دعم بعضنا بعضاً على الأرض، حيث تقتضي الحاجة". بالنسبة إليه: "بذلك نحن نقف مع بعضنا البعض... مع إخوتنا في الوطن. هذه هي الوحدة الوطنيّة التي نعمل من أجلها". مع رفيقتَين له، يشارك كمال بالتحرّكات منذ البداية. يقول: "نزلت إلى الشارع لأنّني لا أستطيع البقاء في المنزل ساكناً. فأنا أنهي دراستي الجامعيّة قريباً، واحتمالات بقائي من دون عمل، شأني شأن كثيرين غيري، كبيرة. بالتالي إمّا البطالة وإمّا السفر، علماً أنّ عدداً كبيراً من رفاقي لم يتمكّن من العثور على فرصة عمل إلا في خارج لبنان. من جهتي، السفر ليس خياراً، فطموحي هو البقاء في الوطن وبناء مستقبلي هنا. كذلك، تحمّل أبي تكاليف كبيرة ليؤمّن لي تعليمي، ومن غير الجائز أن تذهب تضحياته سدى". ويؤكّد كمال أنّ "الواحد منّا عند تنقّله بين الساحات، يلاحظ وجهات نظر مختلفة بين الناس المنتفضين من أجل الحريّة والمساواة والحقوق. وفي كلّ يوم، ومع كلّ موقف يطلقه سياسيّ أو آخر من الطبقة الحاكمة، نجد أنفسنا أكثر إصراراً على حقوقنا كمواطنين. نحن لن نتوقّف وماضون قدماً في كلّ الساحات بهتافنا: كلّن يعني كلّن".
في العاصمة بيروت، يستقرّ اليوم زكي ديب (27 عاماً) ابن الكورة (شمال) الذي يحمل شهادة ماجستير في هندسة الكهرباء والروبوتات والميكاترونيك. هو لم يختر السكن في بيروت لأنّه يعمل فيها، بل ليكون وسط الحراك، علماً أنّه عاطل من العمل منذ أربعة أشهر، تاريخ عودته من الخليج حيث عمل لمدّة ثلاثة أعوام. هو حسم أمره لجهة الانخراط في ما يحصل، ويعلّل ذلك بـ" حبّي للوطن"، مؤكّداً "أنا أحبّ لبنان وأحبّ العيش في هذا البلد لكنّني اضطررت إلى السفر وتحمّل قساوة الغربة بعيداً عن الأهل والأصدقاء وبيئتي. أنا أرغب في إصلاح هذا البلد والمساهمة في تحسينه للبقاء فيه... في النهاية هو بلدنا". منذ اليوم الأوّل، نزل زكي إلى الشارع، "وكانت البداية مع تحرّكات الكورة. بعد ذلك شعرت بأنّ الرسالة الأكثر تأثيراً تكون من بيروت. ومنذ ذلك الحين أنا هنا، لكنّني أقصد الشمال من وقت إلى آخر وأشارك في تجمّعات ساحة النور".
ويحكي زكي عن "الشعارات التي تتشابه في الساحات، ولعلّ وسائل التواصل الاجتماعي تؤدّي دورها في هذا السياق. كذلك هي متشابهة لأنّ الوجع الذي يجمع الناس واحد وإن تعدّدت المطالب. نحن نطالب بحقوقنا ليس إلا". أمّا شعاره المفضّل اليوم فهو "الشعب يطالب ولا يفاوض"، شعار رُفع في أكثر من ساحة في الأيّام الأخيرة. ويشدّد على أنّ " لا أحد يفاوض على حقوقه. كذلك، فإنّ كلّ شخص منتفض هو قائد للثورة وهو منفّذها. فنحن رافضون للتبعيّة، ومن خلال هذه الثورة خرجنا منها. والناس اليوم يصرّون انطلاقاً من وجعهم، على البقاء في الشارع، في مختلف المناطق، على الرغم من الاختلافات التي تُسجَّل على أكثر من صعيد في الساحات المختلفة".
والتحرّكات في بيروت لا تقتصر على ساحتَي الشهداء ورياض الصلح في وسط العاصمة وعلى جسر الرينغ المجاور لهما، بل ثمّة أخرى تستهدف مرافق عامة ومؤسّسات من قبيل وزارة العدل وشركتَي الخلوي العاملتَين في لبنان وشركة الكهرباء وغيرها. يُذكر أنّ الأمر لا يقتصر على الاحتجاج فحسب، بل ثمّة حلقات نقاش تُنظَّم في الوسط، تحديداً في ما يُعرف بموقف اللعازاريّة، تتناول قضايا مرتبطة بالفساد وعناوين الانتفاضة المختلفة. وضّاح جمعة (55 عاماً)، يحضر من صيدا "لمتابعة تلك النقاشات عن قرب والاستماع إلى الناس". ووضّاح مدرّس من بنت جبيل (جنوب) له ثلاثة أولاد، اعتاد "المشاركة في كلّ حركة اعتراضيّة في البلد منذ عام 2011، بالتالي من الطبيعيّ أن أنخرط في ما يحصل اليوم، خصوصاً ما بين صيدا والنبطيّة (جنوب)". بالنسبة إليه "ثمّة تشابه كبير بين ساحات مختلف المناطق، غير أنّ لكلّ واحدة خصوصيّتها. في صيدا مثلاً، ثمّة حرص على عدم الإشارة إلى أيّ من أسماء السياسيّين، وهذا أمر مفهوم في ظلّ تمسّك بعض الناس بانتماءاتهم. والأمر نفسه في النبطيّة، لذا التركيز يبقى على العناوين العامة". ويعبّر عن قلقه إذ إنّ "البلد على شفير الهاوية، وهذا ما يدفعني إلى الانتفاضة من أجل تعليم أولادي. لا يهمّني المأكل ولا المشرب ولا الملبس، مطلبي هو تعليمهم. ربّما لن يتمكّنوا من دخول الجامعة اللبنانيّة لسبب أو لآخر، فكيف أتمكّن أنا كمدرّس من توفير تكاليف دراستهم في جامعة خاصة"؟