جرائم الصيدليات... سوريون يتحوّلون من مرضى إلى مدمنين

16 نوفمبر 2019
الصيدليات العشوائية تكثر في المنطقة (كريس ماكغراث/ Getty)
+ الخط -

من غير البديهيّ أن يسلّم المرء بأنّ المؤسسات التي تُعنى بالصحّة قد ترتكب جرائم في حقّه. لكنّ هذه هي الحال في صيدليات كثيرة في شمال سورية تصرف الأدوية المهدّئة وغيرها عشوائياً.

لا تنتهي قصص المعاناة على اختلافها في الشمال السوري، غير أنّ قضايا كثيرة تُهمَل على خلفيّة عدم إدراك خطورتها ومدى تأثيرها على المجتمع ككلّ. ومن بين القضايا التي لا يُسلَّط الضوء عليها ما يطلق عليه الطبيب المتخصص في التخدير عمار العلي تسمية "جرائم المستشفيات والصيدليات". ويقول العلي لـ"العربي الجديد" إنّ "المشكلة تكمن بالدرجة الأولى في المدارس الطبية وكيفية استناد الأطباء إليها. فالمدارس الأميركية تتيح إعطاء الأدوية للمرضى حتى مستويات معيّنة، وإن كان الإدمان من آثارها الجانبية، بخلاف المدارس الأوروبية التي تظهر حذراً بهذا الخصوص". يضيف أنّه "بالنسبة إلينا، في سورية، لا بدّ من اللجوء إلى المدارس الطبية التي تتروّى جيّداً قبل إعطاء المريض الأدوية التي من شأنها التسبّب في الإدمان".

ويتحدّث العلي عن "أحد العاملين معنا في القطاع الصحي الذي تعرّض إلى أزمة عاطفية، فارتأى زملاء لنا في ريف اللاذقية إعطاءه أدوية مهدّئة، وكانت النتيجة إدمانها. حاولنا علاجه في المستشفى الذي نخدم فيه، لكن تبيّن لنا أنّه يقدم على سرقة مثل تلك الأدوية، وبالتأكيد هذا سلوك غير مستبعد لدى أيّ شخص مدمن. في النهاية، كان لا بدّ من إبعاده عن المستشفى للتمكّن من تقديم العلاج له، فهو صار في حاجة إلى مركز تخصصي، لكنّ المشكلة تكمن في أنّ مثل هذه المراكز لا تتوفّر في الشمال السوري". ويتابع العلي أنّ "الشاب فقد عمله ونُقل إلى تركيا حيث رفضت المستشفيات التركية علاجه كون المراكز التركية المتخصصة بعلاج الإدمان تقدّم خدماتها للأتراك حصراً".

هنا التزام بالقوانين (أنور عمرو/ فرانس برس)

من جهته، يشير مدير دائرة السلامة في "اتحاد منظمات الإغاثة والرعاية الطبية - أوسوم"، الدكتور أحمد دبيس، لـ"العربي الجديد"، إلى "ظاهرة تفشّي الأدوية التي تسبّب الإدمان وعن تأثيرها الذي يصل إلى تأثير المخدرات المعروفة نفسه". ويتحدّث عن "استخدام الأدوية من دون إشراف طبي عموماً، في خلال الأعوام التسعة الماضية، نتيجة عدم توفّر رقابة على الصيدليات وعلى عمليات صرف الأدوية. ومثل تلك الأدوية المهدّئة تصل من مناطق مختلفة، سواء مناطق سيطرة النظام السوري أو من تركيا أو بلدان أخرى، لتُصرَف لاحقاً من دون التقيّد بالإرشادات اللازمة كما كانت الحال في السابق عندما كانت الأدوية لا تُباع إلا بموجب وصفات طبية، علماً أنّ تلك الوصفات تأتي عادة محدّدة لجهة الكميّة والعيار". يضيف دبيس أنّ "ثمّة تقليلاً من احترام المهنة، إذ إنّ الصيدليات بمعظمها مخالفة، والذين يعملون فيها هم في الغالب ممرّضون أو حتى أشخاص ليست لديهم أيّ علاقة بالقطاع الصحي ككل. وتكون ثقافة هؤلاء محدودة جداً، ومعظمهم من حملة الشهادة الثانوية".

في السياق، يوضح معاون مدير صحة إدلب الدكتور مصطفى العيدو لـ"العربي الجديد" أنّ "عدد الصيدليات المرخّصة في محافظة إدلب يبلغ 275 صيدلية، في حين أنّ 220 أخرى هي قيد الترخيص". يضيف أنّ "ثمّة 300 صيدلية تقريباً غير مرخّصة، على خلفيّة موجات النزوح، علماً أنّ أكثر من نصف تلك الصيدليات هي برعاية صيدلاني".




أدوية في متناول الجميع

ويوضح دبيس أنّ "الترويج للأدوية المهدّئة يأتي على خلفية علاج إصابات معيّنة، من قبيل عمليات البتر أو الإصابات العصبية، إذ إنّ الذين يتعرّضون إلى حالات مماثلة يحتاجون إلى مسكّنات ومهدئات من شأنها التخفيف من الآلام والأعراض النفسية ذات الصلة. ويدمن هؤلاء الأدوية المسكّنة والمهدّئة نتيجة عدم توفّر متابعة من قبل طبيب متخصص". ويشدّد على أنّ "تلك الأدوية تؤخذ بجرعات محددة، بحسب اللازم، على أن تخفَّف تدريجياً حتى التوقّف عنها وفق جدول زمني محدّد، إذ إنّه لا يجوز الانقطاع عنها فجأة. والخطأ يحدث عندما يصف الطبيب مثل هذه الأدوية لمرّة واحدة، لكنّ المرضى يعودون إلى الصيدليات ويبتاعونها مجدداً، وهكذا يعتادونها إلى درجة إدمانها حتى بعد شفائهم. ويتنقّل هؤلاء بين الصيدليات للحصول على تلك الأدوية، وثمّة صيدليات تستفيد من ذلك. فهذه تجارة تأتي بأرباح كبيرة نتيجة الطلب الكبير، وكثير من الأشخاص على الرغم من فقرهم قد يبيعون مقتنياتهم للحصول على مثل تلك المواد.

ويشير دبيس إلى أنّ "من بين المواد التي تُستخدم كمخدّرات في الشمال السوري نجد أدوية لعلاج الأمراض النفسية وأخرى للأمراض العصبية تُستخدم بجرعات معيّنة حتى تمنح متعاطيها التأثير نفسه الخاص بالمخدرات المعروفة". لكنّه يؤكد من جهة أخرى أنّ "صرف الأدوية في المستشفيات مضبوط وغير عشوائي، إذ إنّه يجرى عبر صيدليات تابعة لتلك المستشفيات أو من قبل صيدليات خيرية. أمّا المخالفات بمعظمها فتُسجّل في الصيدليات غير الشرعية أو غير القانونية التي تعمل من دون تراخيص مديريات صحة إدلب أو حماة أو حلب أو الساحل". ويتابع دبيس أنّه "في فترة من الفترات، كانت كميات كبيرة من الأدوية تدخل إلى المناطق التي لا تخضع لسيطرة النظام، وهي شحنات دوائية من فرنسا أو ألمانيا تصل في حاويات. وتلك الأدوية التي جمعها سوريون مغتربون كانت تُسلَّم إلى بعض المراكز الصحية وكان المرضى يأخذون كميات كبيرة من تلك الأدوية عشوائياً، ومنها ما يكون تأثيره مخدّراً. وفي حين يحتاج مرضى كثر إلى تلك الأدوية، فإنّ ثمّة مدمنين قد يلجأون إلى تزوير وصفات بطريقة احترافية والحصول بالتالي على ما يرغبون فيه".

الأمور مضبوطة في هذه الصيدلية كذلك (أنور عمرو/ فرانس برس)

فقر وحاجة وإنكار

في سياق متصل، يتحدّث دبيس عن "الفقر المنتشر في شمال غرب سورية وحاجة الناس إلى الدواء، بالتالي لا يتردد الصيدلاني أو الشخص المسؤول عن بيع الأدوية في بيع دواء ما لسببَين؛ الأوّل الخوف من أن يكون هؤلاء الأشخاص في حاجة فعلية إلى مثل تلك الأدوية، أمّا الثاني فهو أنّ كثيرين يحملون السلاح. والسلاح غير المضبوط يُستخدَم للتهديد بهدف الحصول على كميات من الأدوية، وحاملوه لا يقرّون بطبيعة الحال أنّهم مدمنون، بل يصرّحون بأنّهم مرضى وفي حاجة إلى تلك الأدوية لأغراض علاجية". ويكمل دبيس أنّ "الصيدلاني يستطيع بالتأكيد تمييز الأشخاص المدمنين عن سواهم، كونهم يتردّدون دائماً على صيدليته، لكنّ مراكز علاج الإدمان غير متوفّرة وقلّة هم الأطباء المتخصصون بالأمراض النفسية".

من جهتهم، يرفض كثيرون من المدمنين الحديث عن الموضوع، لا سيّما أنّهم لا يقرّون في الأساس بأنّهم كذلك. لكنّ أحمد (32 عاماً) من مدينة الأتارب في ريف حلب الغربي، يعترف بما آلت إليه الأمور معه. ويخبر "العربي الجديد" أنّه تعرّض إلى إصابة في ركبته وفخذه في عام 2014 استوجبت تناوله أدوية مهدئة، غير أنّه لم يظنّ في يوم أنه سوف يدمنها. ويوضح أحمد: "كانت إصابتي بالغة واحتجت إلى علاج استمرّ نحو عامَين ونصف العام. وبعد معالجة الكسور، استوجبت حالتي علاجاً فيزيائياً حتى أتمكّن من ثني ركبتي، بالتالي وصف لي المعالج الفيزيائي حبوباً مهدّئة ومسكّنات قوية المفعول، الغرض منها تخفيف الألم. وبعد مدّة، صرت أشعر بحاجة إلى تلك الأدوية، من دون أن أدرك أنّني بلغت مرحلة الإدمان. وعندما استشرت الطبيب، أبلغني بأنّني صرت مدمناً". يضيف أحمد: "أبلغت المعالج الفيزيائي بالأمر، فراح يخفّض تدريجياَ جرعات الأدوية. لا أنكر أنّني عانيت لمدّة من الأمر، غير أنّني ممتنّ لتدارك الأمر قبل تفاقمه".




تشبه قصّة عبد الرحمن (38 عاماً) من ريف حمص الشمالي قصّة أحمد. فهو تعرّض إلى حادثة أدّت إلى كسور في جسده، واضطر إلى الخضوع لعلاج فيزيائي لمدةّ ستة أشهر، فيما وصف له الطبيب المعالج حبوباً مهدّئة. فيخبر "العربي الجديد": كنت أشعر حين تناولها بحالة من السعادة ، لدرجة أنّني لم أكن أحسّ بأيّ ألم. ورحت بالفعل أعتاد تلك الحبوب لكنّني لم أصل إلى مرحلة الإدمان. فالطبيب كان متنبّهاً لكيفية تعامله مع الأدوية، وساعدني في التوقّف عن استهلاكها وفق جدول زمني محدد. واليوم أنا أقيم في تركيا وأعيش حياتي بشكل طبيعي مع أسرتي". ويؤكد أنّ "الوعي لدى الطبيب وإشراف أهل الاختصاص ضروريان في مثل هذه الحالات، إذ من شأنهما أن يمنعا حدوث الإدمان على خلفية الاستخدام غير المضبوط والمنتظم".
المساهمون