لا... لا مبالغة في الأمر. هي المرة الأولى التي ينسى فيها اللبنانيون بطاقاتهم الشخصية ويلتقون في الشارع من دون أغطية حزبية ودينية وطائفية خنقت أنفاسهم لوقت طويل. ومع البطاقات، أسقطوا حاجز الخوف، فليس هناك ما هو أسوأ من الجوع
الشاب الذي وقف على سقف السيارة مُحاطاً بمكبّرات الصوت في منطقة وسط بيروت، كان يريد أن يُخبر الجميع قصّته. بدا وكأنّه يتحدّث إلى الآلاف الواقفين على الأرض فرداً فرداً. لم ينزل إلى الشارع من أجل محاسبة المسؤولين عن الفساد أو المطالبة بحقوقه. كان يريد أن يعرف فقط ماذا يجري على الأرض... ولم يرجع إلى البيت. لماذا يعود وقد وجد من يسمعه؟ الآلاف يصغون إليه. بين ليلة وضحاها، لم يعد على الهامش. صار له صوت. بات قادراً على الحلم. انتبه إلى كونِه فقيراً. لم يعد قادراً على الصمت، وكأنّها المرة الأولى التي تُتاح له الفرصة للتعبير عن نفسه. نعم هو فقير، لكنّه اعتاد "البدائل" حاله حال معظم اللبنانيين. كما اعتاد الإصغاء إلى أمّه التي كانت تخشى عليه النزول إلى الشارع خشية "حرب أهلية جديدة".
"أولئك الذين فضّلوا البقاء في البيت، إن كانوا يملكون المال، نطلب منهم البقاء في منازلهم. الساحة للجوعى والعاجزين عن تأمين أقساط المدارس. ألستُم جوعى؟ فيردّ كثيرون: نعم". ثم يطلب من أبو الشبك أن "يُسمعنا أغنية لجوليا". لحظة. تذكّر ما يضيفه. بدا كأن الكلمات تخرج منه للمرة الأولى. وجدت طريقها إلى الشارع، إلى الآذان، بل إلى السماء. "لا نُريد أن نقول حقوق المسيحيين ولا حقوق المسلمين. من هم هؤلاء"؟. ويكرّرها. "إنتو مين؟ (يقصد السياسيين)".
أبو الشبك كان حاضراً لبثّ أغنية جوليا. "أنا بتنفّس حرية، ما تقطع عنّي الهوا". في هذه اللحظة، لا بدّ أن يُعلّق أحدهم. "هل تعرف جوليا أن الناس تستخدم أغنياتها من أجل إطاحة زوجها (وزير الدفاع الياس بو صعب)؟". يضحك وأصدقاؤه ويصرخون "ثورة، ثورة، ثورة".
اقــرأ أيضاً
بدا كأن جميع اللبنانيين يعرفون بعضهم بعضاً. لا حاجة لأن يعرّف أحدهم عن نفسه إلى الآخر. الجميع يألف وجوه الجميع. كيف لم ينتبهوا سابقاً إلى أنهم لبنانيون "فقط" قبل الغوص في تفاصيل شخصية عن أنفسهم. أرواح الشباب بُعثت من جديد. كانوا قد خسروها. سحبها السياسيون منهم رويداً رويداً. أفرغوها من أجسادهم، لكنّهم بُعثوا من جديد، واسترجعوا أصواتهم، وأعادوا لملمة أحلامهم من هنا وهناك. أتسألونهم ماذا تفعلون؟ أو لماذا تتظاهرون؟ كم يبدو السؤال مستفزّاً بالنسبة إليهم. مُخطئٌ من يظنّ أنهم لا يعرفون أسباب خروجهم إلى الشارع، أو مطالبهم. حتى لو كان السبب إفراغ الغضب، فهو أكثر من كافٍ.
كثيرون حملوا الأعلام اللبنانيّة. ومن لم يحملها، فضّل أن يكون فارغ اليدين، إلّا من الهواتف لـ "السيلفي". أين الأعلام الحزبية؟ يسأل أحدهم متهكماً. حقاً، أين هذه الأعلام؟ الأمر غريب حتى تشعر أنه عليك البحث عنها. لا بد أن تكون موجودة في مكان ما: في الحقائب، تحت الأرض، أي مكان. لكن لا... لا أثر لها، وهذا "إنجاز"، يُعلّق أحدهم. منذ يوم الخميس الماضي وحتى اليوم، خلت ساحة الاعتصام في وسط بيروت من الأعلام الحزبية. وبين الحين والآخر، كان المعتصمون يردّدون: "كلّنا للوطن للعلى للعلم". لم يردّدوا نشيدهم الوطني مُجبرين كما في المناسبات التي تفرض عليهم ذلك. بدوا فخورين بأنفسهم وقد تحرّروا من صمت طويل مُحرّرين نشيدهم من مناهج تربوية بالية.
كانوا قد نسوا أنّ الأرض لهم، وانشغلوا في البحث عن أراضٍ أخرى علّهم يشعرون بالانتماء. لكنهم أمس، وفي الأيام التي سبقته، عادوا إلى وطنهم، وإلى ساحةٍ فرّقت بينهم وبين لبنانيّين آخرين. لطالما شعر كثيرون أن ثمّة عيون تنظر إليهم بدونية، حين يمرّون في شوارعها. لكنّ الهوّة الطبقية سقطت. عادوا إلى الأرض. والآباء والأجداد الذين كان لهم محالهم وبسطاتهم شعروا للمرة الأولى أن ثمّة من ينتقم لهم. "الساحة كانت للفقراء ولا بدّ أن تبقى لهم".
على إحدى اللافتات، كتب سؤال وجواب. "لماذا يجب أن نتظاهر جميعاً؟ لأننا نحتل المرتبة الخامسة عالمياً في ما يتعلق بالتلوث، ولأنّنا ضمن الدول الثلاثين الأولى في قياس مدى فساد الحكومات، ولأن لبنان في المرتبة 154 من أصل 180 لناحية الوضع الاقتصادي (يعني وضعنا زبالة)..". ومن يشكّ في قلّة وعي الشباب، يمكنه إعادة قراءة هذه اللافتة ومثيلاتها.
لافتة أخرى تقول: "بحكم قانون المواطنين: رفع السرية عن كل السياسيين، نفي كل السراقين والحرامية (اللصوص)، ردوا (أعيدوا) المصريات (المال) لي نهبتوهن (الذي سرقتوه)".
أما الكلب "إيدوين"، فلم يحضر مع صاحبه للمشاركة في التظاهرات، على الرغم من حضور كلاب أخرى. لكنّه حرص على تعريف الناس إليه. حمل لافتة كبيرة عليها صورته، وأسفلها "كلبتي أشرف منكن. Sorry for the comparison Edwen (عذراً على المقارنة إيدوين). وللّذين لا يعرفون سبب إغلاق الطرقات، فهي "مقفلة بسبب صيانة الوطن".
اقــرأ أيضاً
كان مجموعة من المتظاهرين يهتفون: "صهيوني صهيوني، سمير جعجع صهيوني". للحظة، ينتابك الخوف. عبارة كهذه كانت لتشعل حرباً في ما مضى. لكن بعض الشباب، غير الموافقين على هذا الحكم، اكتفوا بالصمت، قبل أن ينتقلوا إلى شتم وزير الخارجية جبران باسيل، الذي ميّزه المتظاهرون بالكمّ الأكبر من الشتائم، إضافة إلى رئيس الجمهورية ميشال عون، ورئيس مجلس النواب نبيه بري، وزوجته رندة بري. أما بقية الأقطاب السياسية، فلن تكن بمنأى عن الشتائم. لأوّل مرة، بدا كل شيء عادياً. الشتائم تطلق من قلوب متعبة، محترقة. يرددها الفتيات والشبان معاً. لا "عيب" فيها أو إساءة، بل بدت أقل بكثير مما فعله السياسيون بالمواطنين. يرددون الأغنيات والشعارات "المزوّدة" بالشتائم ويرقصون، وقد بدا كل ذلك سلساً إلى درجة كبيرة.
ونعم، يمكن هنا إطلاق الأحكام. جسّد اللبنانيون اليوم عبارة "كليشيه"، ورقصوا فرحاً. وأعلنوا "بالروح بالدم نفديك يا لبنان". هل سبق أن سمعتم ذلك من قبل. لا. لأنها المرة الأولى التي ينبش فيها اللبنانيون مواطنيتهم من مقابر حفرها السياسيون لطمرهم فيها. لكنّ الرمال متحرّكة، وقد تحرّكت. "ثورة، ثورة، ثورة"، و"كلّن يعني كلّن".
"أولئك الذين فضّلوا البقاء في البيت، إن كانوا يملكون المال، نطلب منهم البقاء في منازلهم. الساحة للجوعى والعاجزين عن تأمين أقساط المدارس. ألستُم جوعى؟ فيردّ كثيرون: نعم". ثم يطلب من أبو الشبك أن "يُسمعنا أغنية لجوليا". لحظة. تذكّر ما يضيفه. بدا كأن الكلمات تخرج منه للمرة الأولى. وجدت طريقها إلى الشارع، إلى الآذان، بل إلى السماء. "لا نُريد أن نقول حقوق المسيحيين ولا حقوق المسلمين. من هم هؤلاء"؟. ويكرّرها. "إنتو مين؟ (يقصد السياسيين)".
أبو الشبك كان حاضراً لبثّ أغنية جوليا. "أنا بتنفّس حرية، ما تقطع عنّي الهوا". في هذه اللحظة، لا بدّ أن يُعلّق أحدهم. "هل تعرف جوليا أن الناس تستخدم أغنياتها من أجل إطاحة زوجها (وزير الدفاع الياس بو صعب)؟". يضحك وأصدقاؤه ويصرخون "ثورة، ثورة، ثورة".
بدا كأن جميع اللبنانيين يعرفون بعضهم بعضاً. لا حاجة لأن يعرّف أحدهم عن نفسه إلى الآخر. الجميع يألف وجوه الجميع. كيف لم ينتبهوا سابقاً إلى أنهم لبنانيون "فقط" قبل الغوص في تفاصيل شخصية عن أنفسهم. أرواح الشباب بُعثت من جديد. كانوا قد خسروها. سحبها السياسيون منهم رويداً رويداً. أفرغوها من أجسادهم، لكنّهم بُعثوا من جديد، واسترجعوا أصواتهم، وأعادوا لملمة أحلامهم من هنا وهناك. أتسألونهم ماذا تفعلون؟ أو لماذا تتظاهرون؟ كم يبدو السؤال مستفزّاً بالنسبة إليهم. مُخطئٌ من يظنّ أنهم لا يعرفون أسباب خروجهم إلى الشارع، أو مطالبهم. حتى لو كان السبب إفراغ الغضب، فهو أكثر من كافٍ.
كثيرون حملوا الأعلام اللبنانيّة. ومن لم يحملها، فضّل أن يكون فارغ اليدين، إلّا من الهواتف لـ "السيلفي". أين الأعلام الحزبية؟ يسأل أحدهم متهكماً. حقاً، أين هذه الأعلام؟ الأمر غريب حتى تشعر أنه عليك البحث عنها. لا بد أن تكون موجودة في مكان ما: في الحقائب، تحت الأرض، أي مكان. لكن لا... لا أثر لها، وهذا "إنجاز"، يُعلّق أحدهم. منذ يوم الخميس الماضي وحتى اليوم، خلت ساحة الاعتصام في وسط بيروت من الأعلام الحزبية. وبين الحين والآخر، كان المعتصمون يردّدون: "كلّنا للوطن للعلى للعلم". لم يردّدوا نشيدهم الوطني مُجبرين كما في المناسبات التي تفرض عليهم ذلك. بدوا فخورين بأنفسهم وقد تحرّروا من صمت طويل مُحرّرين نشيدهم من مناهج تربوية بالية.
كانوا قد نسوا أنّ الأرض لهم، وانشغلوا في البحث عن أراضٍ أخرى علّهم يشعرون بالانتماء. لكنهم أمس، وفي الأيام التي سبقته، عادوا إلى وطنهم، وإلى ساحةٍ فرّقت بينهم وبين لبنانيّين آخرين. لطالما شعر كثيرون أن ثمّة عيون تنظر إليهم بدونية، حين يمرّون في شوارعها. لكنّ الهوّة الطبقية سقطت. عادوا إلى الأرض. والآباء والأجداد الذين كان لهم محالهم وبسطاتهم شعروا للمرة الأولى أن ثمّة من ينتقم لهم. "الساحة كانت للفقراء ولا بدّ أن تبقى لهم".
على إحدى اللافتات، كتب سؤال وجواب. "لماذا يجب أن نتظاهر جميعاً؟ لأننا نحتل المرتبة الخامسة عالمياً في ما يتعلق بالتلوث، ولأنّنا ضمن الدول الثلاثين الأولى في قياس مدى فساد الحكومات، ولأن لبنان في المرتبة 154 من أصل 180 لناحية الوضع الاقتصادي (يعني وضعنا زبالة)..". ومن يشكّ في قلّة وعي الشباب، يمكنه إعادة قراءة هذه اللافتة ومثيلاتها.
لافتة أخرى تقول: "بحكم قانون المواطنين: رفع السرية عن كل السياسيين، نفي كل السراقين والحرامية (اللصوص)، ردوا (أعيدوا) المصريات (المال) لي نهبتوهن (الذي سرقتوه)".
أما الكلب "إيدوين"، فلم يحضر مع صاحبه للمشاركة في التظاهرات، على الرغم من حضور كلاب أخرى. لكنّه حرص على تعريف الناس إليه. حمل لافتة كبيرة عليها صورته، وأسفلها "كلبتي أشرف منكن. Sorry for the comparison Edwen (عذراً على المقارنة إيدوين). وللّذين لا يعرفون سبب إغلاق الطرقات، فهي "مقفلة بسبب صيانة الوطن".
كان مجموعة من المتظاهرين يهتفون: "صهيوني صهيوني، سمير جعجع صهيوني". للحظة، ينتابك الخوف. عبارة كهذه كانت لتشعل حرباً في ما مضى. لكن بعض الشباب، غير الموافقين على هذا الحكم، اكتفوا بالصمت، قبل أن ينتقلوا إلى شتم وزير الخارجية جبران باسيل، الذي ميّزه المتظاهرون بالكمّ الأكبر من الشتائم، إضافة إلى رئيس الجمهورية ميشال عون، ورئيس مجلس النواب نبيه بري، وزوجته رندة بري. أما بقية الأقطاب السياسية، فلن تكن بمنأى عن الشتائم. لأوّل مرة، بدا كل شيء عادياً. الشتائم تطلق من قلوب متعبة، محترقة. يرددها الفتيات والشبان معاً. لا "عيب" فيها أو إساءة، بل بدت أقل بكثير مما فعله السياسيون بالمواطنين. يرددون الأغنيات والشعارات "المزوّدة" بالشتائم ويرقصون، وقد بدا كل ذلك سلساً إلى درجة كبيرة.
ونعم، يمكن هنا إطلاق الأحكام. جسّد اللبنانيون اليوم عبارة "كليشيه"، ورقصوا فرحاً. وأعلنوا "بالروح بالدم نفديك يا لبنان". هل سبق أن سمعتم ذلك من قبل. لا. لأنها المرة الأولى التي ينبش فيها اللبنانيون مواطنيتهم من مقابر حفرها السياسيون لطمرهم فيها. لكنّ الرمال متحرّكة، وقد تحرّكت. "ثورة، ثورة، ثورة"، و"كلّن يعني كلّن".