تأبى المآسي أن تفارق اليمن وأهله. فيستهلّ هؤلاء العام الجديد مثقلين بكلّ ما خلّفته الحرب على الصعد كافة، علماً أنّ ثمّة أعباء كثيرة يحملها اليمنيون منذ ما قبل الأزمة الأخيرة في البلاد.
ودّع اليمن عام 2018 ودخل عام 2019 مجرجراً معه جراح حرب مدمّرة لم تنتهِ فصولها بعد نحو خمس سنوات زادته وهناً، بينما تبدو مدنه أشبه بقرى مهملة. العاصمة صنعاء، وهي أقلّ المدن الرئيسية التي طاولتها الحرب، تمتلئ شوارعها بالسيارات المركونة منذ سنوات فيها، بسبب انعدام الدخل للعام الثالث على التوالي والارتفاع الكبير في أسعار الوقود. أمّا أحياؤها، فيتزاحم سكّانها حاملين صفائح زيت الطعام الصفراء الفارغة، في انتظار حصولهم على حصّتهم من المياه بعدما تُفرغ الصهاريج حمولاتها في خزانات وُضعت على أطراف الشوارع. من جهتها، المدارس شبه خالية من المدرّسين والمستشفيات من الأطباء، بينما المنازل مطفأة أنوارها مع غياب التيار الكهربائي عنها.
هذا في المدينة. أمّا في الريف، فما زالت الأوضاع على حالها، من دون أيّ تغيير باستثناء اليأس المتنامي لدى سكانه من وصول أيّ مشاريع تنموية إليه، في ظلّ استمرار الحكومة والجهات المموّلة الأخرى بتجميد جهودها للتنمية، ما عدا في بعض مناطق تابعة لمحافظات خاضعة لسيطرة الحكومة الشرعية.
لم تتغيّر خارطة القتال كثيراً، ما عدا على الساحل الغربي والحدود الشمالية مع السعودية، في حين أنّ الأوضاع الإنسانية تمضي في التدهور وسط جمود حكومي لافت واستجابة إنسانية تقليدية لا تواكب تفاقم الأحوال. فهي من دون أثر مستدام ومن دون تحفيز للمجتمع في اتجاه مساعدة نفسه، مع تسهيل وصول أو تحسين الحصول على الخدمات الأساسية التي بات في أمسّ الحاجة إليها.
مصابة بالكوليرا في أحد مستشفيات صنعاء (محمد حمود/ Getty) |
هذا هو الوضع الصحي
وسط كلّ ذلك، عاد مرض الكوليرا ليتمكّن من مناطق عدّة، بعدما كان قد بلغ ذروته في عام 2017 وهمد في أواخره، بحسب تقارير المنظمات الأممية المعنيّة. ومع نهاية هذا العام، بعد موجة ثالثة من الكوليرا، يمكن الحديث عن أكثر من 1.2 مليون إصابة بهذا المرض. وأتت الأمور أكثر صعوبة في ظل المنظومة الصحية الماضية في التدهور مع استمرار تعطل نحو نصف المرافق الصحية لأسباب مختلفة ترتبط بالحرب وآثارها. بالتالي، راحت معاناة الناس تزداد في حين تحوّلت مرافق كثيرة إلى معالجة جرحى الحرب، من قبيل كبرى المستشفيات العامة في مدينة صنعاء كمستشفى السبعين للأمومة والطفولة ومستشفى الكويت الجامعي الذي تتنوع تخصصاته. يُذكر أنّ المستشفيَين كانا يستقبلان حالات صحية من أكثر من أربع محافظات في شمال البلاد.
على الرغم من أنّ المنظمات الصحية الأممية تتكفل بتزويد كل المستشفيات العامة في شمال البلاد بالوقود اللازم للإنارة وتشغيل الأجهزة وببعض المعدات والمواد المختبرية والدوائية، وتتكفل كذلك بدفع حوافز للأطقم الطبية بعد انقطاع رواتبها، فإنّ تلك المستشفيات تتقاضى من المرضى المدنيين رسوماً مرتفعة، هم غير قادرين على دفعها. أمّا حجتها فشراء مستلزمات طبية متنوعة غير متوفرة فيها.
تفيد آخر إحصاءات حول الوضع الصحي في اليمن، بحسب وزارة الصحة العامة والسكان الخاضعة لسيطرة الحوثيين بصنعاء، والتي شملت 333 مديرية يمنية في 23 محافظة، بأنّ عدد الإصابات بمرض الدفتيريا (الخانوق) منذ ظهوره في أكتوبر/ تشرين الأوّل 2017 وحتى ديسمبر/ كانون الأوّل 2018، وصل إلى 2887 مصاباً توفي منهم 167. أمّا مرض الحصبة، فقد سُجّلت 21 ألفاً و432 إصابة وحالة اشتباه بالإصابة به في خلال عام 2018. كذلك أصيب نحو 24 ألفاً و972 شخصاً بمرض الضنك، وتجاوز عدد المصابين بمرض الملاريا النصف مليون حالة في 22 محافظة يمنية (باستثناء جزيرة سقطرى التي صارت خالية من الملاريا)، توفي منهم المئات.
ويعاني نحو 500 ألف شخص من مرض السكري بنوعَيه، وهم بمعظمهم لا يجدون الأدوية اللازمة، خصوصاً حقن الإنسولين. من جهتهم، لا يجد نحو خمسة آلاف مصاب بأمراض الكلى معظم أدويتهم الخاصة بتثبيط المناعة والتي يتوجب عليهم تناولها طوال حياتهم تجنّباً للانتكاس. وقد توفي مئات منهم بسبب عجز الدولة عن توفير الدواء. وينتهي عام 2018، مع 5658 حالة فشل كلوي تخضع لغسل كلى مرتَين في الأسبوع في 27 مركز غسيل كلوي، في حين أغلقت أربعة مراكز بسبب الحرب. وهؤلاء يحتاجون إلى 700 ألف عملية غسل كلى سنوياً، بينما لا تتوفر في المخزون الاستراتيجي مستلزمات تكفي أكثر من 10 في المائة من الحالات. وثمّة 50 ألف مريض تقريباً، بأحد أمراض الكلى، مهددون بالوصول إلى مرحلة الفشل الكلوي في أيّ وقت، علماً أنّ نحو 1200 منهم توفوا، بحسب ما أفادت "العربي الجديد" مصادر خاصة في وزارة الصحة.
تجدر الإشارة إلى أنّ عدد الجرحى والمرضى الذين يعجزون للعام الثالث على التوالي عن السفر إلى الخارج لتلقي العلاجات المناسبة لحالاتهم بسبب إغلاق مطار صنعاء، يتجاوز 200 ألف شخص، توفي منهم أكثر من 10 في المائة. وتبيّن آخر الأرقام أنّ مخازن وزارة الصحة والسكان تفتقر إلى أكثر من 120 صنفاً دوائياً من أدوية الأمراض المزمنة والمنقذة للحياة.
جوع وأطفال
بموازاة ذلك، تبلغ الأزمة الغذائية في البلاد أقصاها في نهاية عام 2018. وتلك الأزمة كانت قد بدأت تتفاقم في اليمن منذ ما قبل الحرب، تحديداً في عام 2011، في حين يتوقع المراقبون اليوم أن يقترب عدد المتضررين من مليونَي نسمة. وقد ازدادت معدلات سوء التغذية الحاد الوخيم ومعدلات الجوع وانعدام الأمن الغذائي خلال أشهر. كذلك زادت معاناة نحو نصف سكان اليمن، من النساء والفتيات، من جرّاء تلك المعدلات، كونهنّ يتحملنّ آثار انعدام الأمن الغذائي في أحيان كثيرة ويتخلّينَ عن طعامهنّ لتمكين أفراد الأسرة الآخرين من تناول حصص من الغذاء.
وتَضاعُف حالات سوء التغذية ناتج بصورة أساسية عن استمرار انقطاع الدخل والرواتب والارتفاع الكبير في الأسعار، بالإضافة إلى استمرار الصراع والجوع في الشريط الساحلي الغربي الأكثر فقراً في البلاد وحيث الكثافة السكانية مرتفعة جداً. ومع تزايد عدد القتلى بسبب الصراع الدائر في البلاد، شهد اليمن زيادة في عدد الأسر التي تعيلها نساء. في السياق، يواجه 400 ألف طفل سوء التغذية الحاد الذي يهدد حياتهم ويعرّضهم لاحتمال الوفاة في أيّ لحظة.
في أواخر عام 2018، أصدر المدير الإقليمي لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، جيرت كابيليري، بياناً في ختام زيارة لليمن، وصف فيه حصيلة نحو أربع سنوات من القتال بالـ"مأساوية". وشرح أنّه "تمّ تجنيد أكثر من 2700 طفل للقتال في حرب الكبار، وتمّ التحقق من مقتل وإصابة بالغة لأكثر من 6700 طفل. وقد نزح نحو 1.5 مليون طفل، يعيش كثيرون منهم وسط حياة مجرّدة ممّا ينبغي أن تكون عليه الطفولة". وأشار إلى أنّ "سبعة ملايين طفل يخلدون إلى النوم كل ليلة وهم جياع. وفي كل يوم يواجه 400 ألف طفل مخاطر سوء التغذية الحاد، ويتعرّضون لخطر الموت في كل لحظة".
وبحسب تقديرات منظمة "أنقذوا الأطفال"، فإنّ 85 ألف طفل ماتوا بالفعل بسبب الجوع الشديد والمرض منذ تصاعد الحرب في عام 2015، وهذا العدد يرتفع كل يوم. وإلى جانب الحرمان من الغذاء، يبقى أكثر من مليونَي طفل خارج المدرسة. أمّا أولئك الذين هم على مقاعد الدراسة، فهم يحصلون على تعليم ضعيف الجودة في فصول مزدحمة بينما يتغيّب المدرّسون نظراً لعدم حصولهم على رواتبهم منذ أكثر من عامَين. وتجدر الإشارة إلى أنّ العمليات العسكرية تستهدف الأطفال تماماً مثلما يفعل الجوع، ولعلّ أبرزها أخيراً استهداف باص ينقل أطفالًا في سوق ضحيان في صعدة بواسطة طائرات التحالف العربي، أدّى إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى.
نقاط متفرقة
أفاد تقرير أممي جديد بأنّ 20 مليون يمني باتوا في مرمى المعاناة، مشيراً إلى أنّ أكثر من 15 مليون نسمة إمّا يعانون أزمة أو حالة طارئة، وأنّ العدد قد يزيد إلى 20 مليوناً ما لم تصلهم معونات غذائية بانتظام. وهذا الوضع جعل الأمم المتحدة تعلن عن أكبر نداء من نوعه على الإطلاق، مع طلب مبلغ قياسي قدره خمسة مليارات دولار أميركي لمساعدة الشعب اليمني.
ووسط القتال الذي اشتدّ في محافظة الحديدة على الساحل الغربي في خلال عام 2018، نزح أكثر من 78 ألف شخص منذ يونيو/ حزيران الماضي، وهؤلاء أضيفوا إلى 3.2 ملايين نازح حتى نهاية عام 2017، بحسب تقارير أممية.
ولا يمكن لأحد أن ينكر تعرّض النساء والفتيات في كل أنحاء البلاد إلى خطر شديد. فاليوم، في البلاد نحو 1.1 مليون امرأة حامل بالإضافة إلى مئات آلاف المرضعات، وفي حال وقوع مجاعة فإنّهنّ سوف يواجهنَ مخاطر موت متزايدة.
من جهة أخرى، تعرّضت بعض المحافظات اليمنية إلى أكثر من إعصار وعاصفة مدارية خلال عام 2018، "مكونو" و"ساجار" و"لبان"، ضربت جزيرة سقطرى ومحافظة المهرة ومدينة المكلا، عاصمة كبرى المحافظات اليمنية، مخلّفة أضراراً مادية كبيرة لا سيّما في البنى التحتية، ومتسبّبة بمقتل عدد من المواطنين.