السجينات السياسيات... جرح لم يندمل في تونس

13 يناير 2019
بوابة سجن قديمة شاهدة على المعاناة (فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -


سجينات سياسيات سابقات في تونس ما زلنَ يطالبنَ بعدم تزوير الحقيقة وإبقاء الذاكرة حيّة، بهدف تحقيق عدالة انتقالية منصفة في البلاد. مهري مسعودي وبسمة بلعي وبسمة شاكر وحميدة العجنقي من هؤلاء، ويخبرنَ "العربي الجديد" عن تجاربهنّ.

بحرقة، تحكي السجينة السياسية السابقة مهرية مسعودي عن معاناتها في السجن، لا سيّما التعذيب والزنزانة الانفرادية حيث كانت تعاقَب نفسياً وجسدياً. تلك الزنزانة المظلمة، بالكاد كان يصلها ضوء خافت يبيّن الدماء التي تلطّخ جدرانها. ولا تنسى الأصوات التي كانت تصدرها الجرذان والتي كانت تؤنسها في العتمة والوحدة.

على مدى أربعة أعوام، تنقّلت مهرية بين عدد من السجون التونسية، هي التي اعتُقلت في 22 يونيو/ حزيران من عام 1994، عندما كانت تلميذة في المرحلة الثانوية بسبب انتمائها إلى جمعية غير مرخّص لها في ذلك الحين، وهي "حركة الاتجاه الإسلامي" أي "حركة النهضة" حالياً. وكانت مهرية قد تعرّضت إلى الملاحقة قبل أن تُفاجأ في إحدى الليالي بمداهمة قوات الأمن بيتها، بتهمة التخطيط لقلب النظام. يُذكر أنّها من قرية الجريصة التابعة لمحافظة الكاف، شمال غربي تونس.

قبل نحو 25 عاماً، وجدت مهرية نفسها برفقة سبعة من أعزّ صديقاتها وراء القضبان، وقد رحنَ يرتعدنَ خوفاً من هول ما يسمعنَ من قصص مؤلمة عن اغتصاب وتحرّش بالسجينات الإسلاميات. نجت مهرية من الاغتصاب، غير أنّها وقعت ضحيّة التحرّش وذاقت أبشع أنواع التعذيب، منها التعليق بوضعيّة "الدجاجة"، وهو عقاب يُعَدّ من أبشع ما قد يتعرّض إليه السجين سواء أكان رجلاً أو امرأة، إلى جانب التعرية. كذلك، وضعت مع صديقاتها السجينات السبع في غرفة معزولة في سجن المرناقية (شمال) المخصّص للرجال، لكنّهنّ لم يلتقينَ بأيّ سجين هناك. وكنّ ملزَمات في ذلك السجن باستخدام دورات المياه نفسها المخصصة للرجال والاستحمام بالماء البارد في الشتاء. وتشير مهرية إلى أنّها ما زالت تعاني حتى اليوم من أمراض صدريّة ومن الحساسيّة، من جرّاء كلّ ذلك. وتخبر أنّها أصيبت بنزيف حاد في السجن من دون أن تتلقّى أيّ علاج، كذلك لم تتمكّن من التداوي بسبب ظروفها المادية الصعبة، "الأمر الذي استوجب إزالة الرحم. بالتالي، حُرمت من إنجاب الأولاد مثل غيري من النساء". وتصف مهرية الظروف بأنّها كانت "سيّئة جداً، في حين كانوا يقدّمون لنا الخبز المحروق والعفن". تضيف أنّ "أكثر ما يحزّ في نفسي هو التهديدات التي طاولت عائلتي، لا سيّما أنّ شقيقي اعتُقل بسببي وكذلك اعتُقلت زوجته الحامل في مناسبات عدّة، وقد أجهضت في إحدى المداهمات".




من جهتها، تقول السجينة السياسية السابقة بسمة بلعي، وهي من مدينة منزل بوزلفة التابعة لمحافظة نابل في شمال شرق البلاد، إنّها لم تعد قادرة على البكاء، بعد الدموع الكثيرة التي ذرفتها على أثر العذاب الذي ذاقته. وتشير إلى أنّ "كل شخص زارني كان مصيره التعذيب. والدي عُذّب أمام عينَيّ، ووالدتي عانت الأمرَّين في خلال زيارتي وزيارة شقيقي الذي اعتُقل كذلك بسببي، من دون أيّ تهمة". تضيف بسمة بلعي أنّ "شقيقتي الصغرى اعتُقلت وتعرّضت إلى التحرّش، الأمر الذي دفعني إلى التوقيع على محضر بحث من دون الاطلاع عليه، خشية اغتصاب شقيقتي". يُذكر أنّ والدها فارق الحياة قهراً بعد خروجها بيوم واحد من السجن، لتلحق والدتها به من جرّاء اعتقال ابنها. وبسمة بلعي التي تأسف لأنّها حُرمت من الزواج والإنجاب، لا تخفي أنّها كانت شاهدة على تعذيب عدد من المسجونين وقتلهم. وتروي أنّه طُلب إليها غسل لحاف أحد القتلى الملطّخ بالدماء، مؤكدة أنّ "مشهد تلك الدماء لا يفارقني".

أمّا السجينة السياسية السابقة بسمة شاكر من محافظة المنستير (وسط شرق)، فتطلق صرخة غضب وألم تعبّر من خلالها عن مئات الضحايا، "فالجرح لم يندمل وسوف يظلّ مفتوحاً طالما أنّ ثمّة من يسعى اليوم إلى حرماننا من حقوقنا وتدنيس النضال". تضيف أنّ "الضحايا لن يسامحوا جلاداً لم يعتذر، في حين أنّ الحقائق لم تُكشَف"، مشددة على أنّ "المصالحة حقّ دستوري وعندها فقط يمكن طيّ صفحة الماضي والتقدّم إلى الأمام". وتبدو المرارة جليّة لدى بسمة شاكر، هي التي تعرّضت إلى الاغتصاب من قبل عناصر أمن الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي بحسب ما تقول، مؤكّدة أنّ "قضية السجينات السياسات بمختلف انتماءاتهنّ وألوانهنّ السياسية تاهت في ظلّ الصراعات الضيّقة والتجاذبات المقيتة. وثمّة من ينكر علينا كضحايا حقّنا بصندوق الكرامة الهادف إلى إنصافنا وإنصاف مئات السجينات". وتشدّد على أنّ "العدالة الانتقالية لم تنصف الضحايا والمسار الحقيقي لحقوق الإنسان لم ينطلق بعد".

حميدة العجنقي سجينة سياسية من مدينة سكرة التابعة لمحافظة أريانة (الضاحية الشمالية للعاصمة تونس)، اعتُقلت مرّات عدّة وتعرّضت إلى تهديدات بالاغتصاب وأصيبت بندوب لن يتمكّن الزمن من محوها. تقول إنّ "تجربة السجن كانت قاسية، تماماً كما هي حال تجارب السجينات السياسيات الأخريات"، مشيرة إلى أنّ خطيبها اعتُقل بسبب انتمائه السياسي ففرّق السجن بينهما، لكنّها انتظرته لأعوام. وتخبر حميدة أنّ "زواجي لم يكن عادياً، فالحضور الأمني فيه كان مكثفاً، وقد مُنِعَت الفرقة الموسيقية من العزف كذلك". تضيف أنّها قضت أحلى أيام زواجها "متنقلة بين المراكز الأمنية. مرحلة ما بعد السجن كانت أشدّ قساوة، لا سيّما أنّني كنت مضطرة إلى الحضور إلى تلك المراكز ثلاث مرّات يومياً. كذلك فإنّ وصمة السجن لم تزل بمرور الزمن".



بالنسبة إلى حميدة، فهي ولدت بعد 14 يناير/ كانون الثاني 2011، "لأنّني لم أكن حيّة قبل الثورة". وهذا ما دفعها أخيراً إلى الاعتصام مع خمس سجينات سياسيات سابقات تحت شعار "الأمل الأخير"، أمام مقرّ "هيئة الحقيقة والكرامة" المنوط بها الإشراف على مسار العدالة الانتقالية في تونس. على الرغم من إضرابهنّ عن الطعام الذي استمرّ نحو شهر، تؤكد حميدة أنّ "ملفّنا ما زال مهمشاً من قبل معظم المنظمات والجمعيات والأحزاب، فلا أحد يلتفت إلى السجينات السياسيات السابقات، وصوت الضحايا لا يُسمع ولا من مجيب لصرخاتهنّ".
دلالات
المساهمون