جهاد الذي جاهد لعائلته وقتله الصهاينة

20 ابريل 2018
مأساة كاملة للعائلة (إيمان عبد الكريم)
+ الخط -

مسيرات العودة على حدود قطاع غزة تكشف عن عزيمة الفلسطينيين لاستعادة أرضهم مهما طال الزمن، لكنّها تخلّف آلاماً كبيرة، منها قصة جهاد أبو جاموس
برصاصة واحدة من جندي صهيوني قُتل الشاب جهاد أبو جاموس في قطاع غزة الفلسطيني المحاصر. أبو جاموس في بداية الثلاثينات، هو الابن الأكبر لعائلته. شقيقه الوحيد وشقيقاته الأربع ووالده جميعهم من الأشخاص المكفوفين. أما والدته فمصابة بالعديد من الأمراض، أقساها السكري الذي أدى إلى بتر أحد أصابع قدميها.

معاناة كاملة تعيشها العائلة بعد وفاة عائلها الوحيد. هو اضطر إلى تحمل المسؤولية باكراً وخاض رحلة الحياة الشاقة والقاسية في منطقة تعاني الكثير من المصاعب، لتوفير الاحتياجات البسيطة اللازمة لمعيشة الأهل والأشقاء الذين تقف عوائق كثيرة أمام إمكانية عملهم.

تجلس الأم المكلومة في منزلها الصغير الفقير. تمتلئ عيناها بصدمة فراق فلذة كبدها، مبدية صبراً كبيراً على مصابها، وفخراً واعتزازاً بارتقاء ابنها "شهيداً في سبيل الوطن وتحقيق حلم العودة". تقول لـ"العربي الجديد": "تزوجت والد جهاد بالرغم من أنّه شخص مكفوف، وكان وما زال شخصاً حسن الخلق. رزقنا الله أطفالنا، ولسبب وراثي كانوا مكفوفين أيضاً، في ما عدا جهاد وهو أكبرهم". تتابع: "تحمّل جهاد مسؤولية العائلة منذ صغر سنه، وكان قوياً وصبوراً ويعمل ليل نهار من أجل توفير لقمة العيش لنا ولأسرته الصغيرة أيضاً".

شيماء وديانا (إيمان عبد الكريم) 


لم يكن جهاد يعيل والديه وأشقاءه فقط، فله زوجة وأربعة أطفال أصغرهم يبلغ عامين، وفي يوم الخميس الذي يسبق يوم رحيله، وعلى غير عادته لم يذهب جهاد لزيارة والديه، وحين ذهبت الأم تهاني إلى الحدود، شرقي خان يونس، والتقت بابنها، وسألته لماذا لم أرك صباح اليوم، أخبرها أنّه تعب من هذه الدنيا، فحاولت أن تهوّن عليه بأنّ الأوضاع صعبة على الجميع.
بعدما أنهى جهاد الثانوية العامة اتجه إلى العمل فوراً لمساعدة والده في إعالة أسرتهم الفقيرة. كان يعمل على عربة يجرها حصان، في مهنة جمع البلاستيك وبعض المعادن الأخرى لبيعها وكسب نقود قليلة، ليأتي بالطعام في نهاية اليوم لسدّ جوع أشقائه.



لم يعلم جهاد أنّ خروجه وأصدقاءه، صوب خيام العودة المنتشرة قرب السياج الفاصل بين القطاع والأراضي المحتلة للمشاركة فيها سيضع حداً لحياته. كان قد خرج مع أصدقائه من قبل، في يوم الأرض، الجمعة 30 مارس/ آذار الماضي من بيته مع ساعات الظهيرة لأداء الصلاة في تلك الخيام على أمل أن يعود إلى عائلته ويخبرهم بمجريات تفاصيل ما يحدث في تلك المنطقة الحدودية.

تعدد أم جهاد التي تعاني من مرض السكري وضغط الدم صفات ابنها: "كان بريئاً كالأطفال، حنوناً وطيباً، باراً بأبيه، وشقيقاته، وكان معطاءً وكريماً لم يبخل أبداً ولم يوفر جهداً في سبيل راحتهم وسعادتهم، فلم يشعرهم بعجز أو عوز". والده زهير أبو جاموس (55 عاماً)، يجلس شارد الذهن والدمع قد ملأ عينيه ويقول مستذكراً اللحظات الأولى من خبر استشهاد ابنه، يقول: "أخبروني أنّ ابني مصاب، هرعت مسرعاً إلى المستشفى، أتعثر في خطواتي، وافتقد عكازي وسندي ابني الذي ما كان يتركني لحظة واحدة في أيّ خطوة، وقيل لي في الطريق إنّ جهاد استشهد. حينها فقط شعرت بقسوة هذا العالم".



يؤكد زهير أنّه الآن فقد أغلى شيء في حياته... فقد ضحكته وفرحه، فقد من كان يخفف عنه وجعه ووجع أشقائه وأمه، فقد الأخ والحبيب والرفيق، والمعيل. يتابع: "لم أكن أستيقظ صباحاً إلاّ على صوت جهاد، لم يكن يخرج إلى عمله قبل أن يراني، كان يرافقني في كلّ رحلاتي إلى العيادة الطبية، وفي زياراتي في الأعياد والمناسبات. كان عيني وقدمي ويدي وعقلي وروحي وفؤادي، ومن بعد استشهاده فقدت معنى الحياة، ولن يعوضني عنه أيّ شيء في الدنيا".

عن مشاركة ابنه في مسيرات العودة، يؤكد زهير أنّه مع كلّ وسائل النضال في سبيل العودة إلى الديار التي اغتصبها منا الاحتلال، ويقول لـ"العربي الجديد": "كنت ضد مشاركة ابني جهاد فيها، خوفاً على حياته، فهو المعيل الوحيد لنا، لكنّ إرادة الله فوق كلّ شيء، وأحتسبه الآن شهيداً في الجنة".

"إرادة الله فوق كلّ شيء" (إيمان عبد الكريم) 


أخت جهاد الصغرى شيماء (16 عاماً)، تتحدث عن حياة أخيها وتفانيه في مساعدة أسرته، فقد كان يخرج كلّ يوم قبل شروق الشمس ليعود قبل غروبها بقليل، ويعمل بجد كي يوفر قوت أسرته وقوت أهله. تقول شيماء: "كانت والدتي تحاول أن تخفف الحمل عنه خصوصاً بعد زواجه، لكنّه كثيراً ما كان يأتي إلى المنزل ولا يجد طعاماً أو دقيقاً فيرسل إلينا من بيته بعض الطعام". تقاطعها إيمان (18 عاماً) وديانا (22 عاماً) بأنّ جهاد كانت لديه موهبة الطهو، وفي نهاية كلّ أسبوع كان يعدّ المعكرونة وهي أكلتهما المفضلة: "كان يطعمنا بيديه الحنونتين".

تكمل شيماء: "كان يأتي كلّ صباح في الموعد نفسه بين الرابعة والخامسة فجراً، قبل توجهنا إلى المدرسة فيأخذنا في جولة كي يرفه عنا ويرسم البسمة على وجوهنا، ثم يوصلنا إلى المدرسة ويذهب إلى عمله". تؤكد شيماء أنّه على الرغم من أنّ والدها هو المسؤول عن العائلة إلاّ أنّه لن يستطيع أن يحلّ محل جهاد، ومن المستحيل أن يستطيع أحد ملء الفراغ الذي تركه.
ياسمين (20 عاماً) تتوقف عن الطباعة على آلة "بريل" وتقول لـ"العربي الجديد": "كان جهاد وأصدقاؤه يجلسون إلى جوار الخيام يتحدثون بعيداً عن الحدود عندما مال جهاد على جانبه الأيسر، فوكزه أحد الأصدقاء مازحاً: هل بكَ شيء، هل ستنام هنا؟ اجلس وحدثني... لكنّ جهاد لم يرد، فما كان منه إلاّ أن رفع رأسه لتنطلق الدماء منه... كانت رصاصة وحيدة تكفلت بجعلنا نعيش كلّ هذا الألم".