استطاع الطفل زارا، الآتي من تمبكتو في مالي، أن يفرض نفسه في شارع جزائري متوجّس من المهاجرين الأفارقة، بفضل حلاوة روحه وشفافيتها، حتى صار نجماً في مدينة وهران
بات من النادر أن يخلو شارع أو فضاء عمومي أو قطار في الجزائر من أسرة أفريقية تطلب المعونة من الناس، ويأتي الأطفال في مقدّمة المتسوّلين الذين ينقسم الجزائريون بخصوصهم، ما بين متعاطف يقول بحق الإنسان في العيش، ومتذمر يقول بحق الطفل في اللعب والدراسة. من بين هؤلاء الأطفال، صغار تميّزوا بروح وسلوك خاصَّين، الأمر الذي جعلهم نجوماً في الشارع الجزائري وأخرجهم من مقام المتسوّل إلى مقام الملائكة الصغار الذين يزرعون البسمة ويبعثون على الارتياح والتفاؤل. من هؤلاء الطفل مامادو في الجزائر العاصمة، والطفل زارا في مدينة وهران، غربيّ البلاد.
لا يمنحك الصغير زارا، ابن السنوات الخمس، أيّ فرصة لتقرّر إمكانية التفاعل معه أم لا، فهو يخطفك سريعاً ببسمة ذات سحر خاص وتجد نفسك وقد بادلته عفوياً البسمة ببسمة والضحكة بضحكة والحضن بحضن، ناسياً توجسّك المسبق من الأمراض المعدية التي قد يحملها معهم الوافدون من بيئة أفريقية مفخخة. يُذكر أنّ الجزائري قد يمنح الطفل الأفريقي المهاجر تحية ومالاً ولمسة على الرأس، لكنّه نادراً ما يمنحه حضناً.
والنساء يأتينَ عادة في الصدارة عندما يتعلّق الأمر بالتوجّس، لكنّ تلك المرأة المتأنّقة أخذت زارا في حضنها قبل أن تخرج من حقيبتها هدايا صغيرة. نسألها عمّا دفعها إلى ذلك، فتبوح لـ"العربي الجديد" بأمر مدهش. تقول: "صادفته في المرة الأولى ولم أتفاعل معه، في حين تعلق هو بمعطفي طالباً أن يقبّلني. في تلك الليلة، أصبت بحمّى شديدة، فرأيته في المنام يمنحني الماء البارد وهو يقبّلني. وفي الصباح، أوّل ما فعلته كان البحث عنه. قبّلته عندما وجدته، ونحن الآن صديقان حميمان".
تضيف المرأة، التي فضّلت عدم الكشف عن هويتها، أنّ "زارا ليس طفلاً عادياً، فهو ذكي وعزيز النفس، إلى درجة أنه يردّ عليك ما تعطيه له إذا لم تخلق معه علاقة خاصة. هو يهتمّ بتقبيلك أكثر من اهتمامه بالأخذ منك. وفي حال عبست في وجهه وأنت تعطيه المال، فإنّه يرفض أن يمدّ لك يده. وهذا سلوك نادر جداً عند أترابه من الجزائريين والأفارقة الذين اضطرتهم الظروف إلى العيش على حساب المحسنين".
اقــرأ أيضاً
في شارع مستغانم، وسط مدينة وهران، يحمل زارا صحناً أبيض صغيراً، ويولي اهتماماً للترامواي وهو يجتاز الشارع، أكثر من اهتمامه بالعابرات والعابرين. ثمّ يتوقف فجأة ويركز على أحدهم ويتأمّله جيّداً قبل أن ينطلق إليه. يقول الممثل أمين رارة لـ"العربي الجديد" إنّه "يحتكم إلى روحه في اختياره للناس. وقد صار شائعاً في المدينة أنّ الذي لا يبتسم زارا في وجهه ولا يمدّ له يده، هو غير جدير بحب الأطفال له، لأنّه غير لطيف، حتى لا نقول شرّيراً".
تعمّدنا التموضع في إحدى الزوايا لرصد الأفعال وردود الأفعال المتعلّقة بصديق المدينة الطارئ، فلاحظنا أنّ كثيرين يتفاعلون معه من باب الحبّ لا الشفقة. بعضهم يحضر له لباساً، ولا يكتفي بمنحه له بل يبقى حتى يراه عليه. والبعض الآخر يعيد ترتيب لباسه أو يمسح ما يعلق به من أوساخ. أمّا الذين يلتقطون معه الصور، فإنّهم يعبّرون عن فرحتهم بذلك. ويقول أحدهم: "كأنني التقطت صورة مع نجم رياضي أفريقي معروف".
في البداية، قد يحسّ المرء بأنّ زارا بلا أسرة، إذ إنّه يظهر وحده ويتصرّف كرجل ناضج لا يحتاج إلى أحد. لكن سرعان ما تسمع أمّه تناديه من آخر الشارع وهي تقبض على يد أخته. تقول: "إنّهما كلّ ما بقي لي، بعدما قتل الإرهابيون أباهما في هجومهم على تمبكتو. فقررت أن آتي بهما إلى الجزائر، لكثرة ما سمعت عن الخير والخيّرين فيها". وتخبر أمّ زارا أنّ "الأمر استغرق شهرَين حتى وصلنا إلى مدينة أدرار في الجنوب الجزائري، حيث مكثنا ثلاثة أشهر. لكنّ كثرة المهاجرين الأفارقة فيها وصرامة المراقبة الأمنية اضطرتاني إلى التوجّه نحو الشمال". تضيف الوالدة: "ما إن وصلنا إلى وهران حتى تعلق الناس بولدي، وباتوا يعاملونه معاملة خاصة أمّنت لنا ما نحتاجه من اهتمام وطعام". نسألها إذا كانت تخاف على زارا عندما يبتعد عنها، لا سيّما عندما يأخذه بعض الأشخاص إلى بيوتهم ويحمّمونه ويبدّلون له ثيابه، فتجيب باطمئنان تام: "لقد حظي ولدي بتعويذة من شيخ صالح في تمبكتو، قال إنّها تقيه من الشر والأشرار".
اقــرأ أيضاً
تجدر الإشارة إلى أنّ بعض الجزائريين ينظرون إلى المهاجرين الأفارقة غير الشرعيين الذين غزوا شوارعهم، في الآونة الأخيرة، بشيء من الاشمئزاز، إذ إنّ كثيرين منهم عبروا الحدود بعيداً عن المراقبة الأمنية والصحية، مع ما يترتّب على ذلك من مشكلات وأمراض. ويأتي ذلك ليخالف نظرتهم إلى الوافدين إلى البلاد بطرقة قانونية مثل الطلاب الجامعيين. في المقابل، يرى الأفارقة الوافدون من الجنوب، خصوصاً من مالي والنيجر المجاورتَين، الجزائر على أنّها الفضاء الحلم، تماماً مثلما يرى الجزائريون أوروبا، وذلك نظراً إلى الفارق الواضح في التنمية وفرص العيش. كذلك، فإنّ الجزائر تمثّل لبعض هؤلاء بوابة مفتوحة تؤدّي إلى الجنة الأوروبية. وفي السياق، تتضارب الأرقام الخاصة بعدد الأفارقة في الجزائر، لكنّها بحسب ما يفيد مصدر في وزارة التضامن الوطني تتراوح ما بين 25 ألفاً و40 ألفاً، ويمثّل الهاربون من الحروب والفقر ثلاثة أرباع المجموع.
بات من النادر أن يخلو شارع أو فضاء عمومي أو قطار في الجزائر من أسرة أفريقية تطلب المعونة من الناس، ويأتي الأطفال في مقدّمة المتسوّلين الذين ينقسم الجزائريون بخصوصهم، ما بين متعاطف يقول بحق الإنسان في العيش، ومتذمر يقول بحق الطفل في اللعب والدراسة. من بين هؤلاء الأطفال، صغار تميّزوا بروح وسلوك خاصَّين، الأمر الذي جعلهم نجوماً في الشارع الجزائري وأخرجهم من مقام المتسوّل إلى مقام الملائكة الصغار الذين يزرعون البسمة ويبعثون على الارتياح والتفاؤل. من هؤلاء الطفل مامادو في الجزائر العاصمة، والطفل زارا في مدينة وهران، غربيّ البلاد.
لا يمنحك الصغير زارا، ابن السنوات الخمس، أيّ فرصة لتقرّر إمكانية التفاعل معه أم لا، فهو يخطفك سريعاً ببسمة ذات سحر خاص وتجد نفسك وقد بادلته عفوياً البسمة ببسمة والضحكة بضحكة والحضن بحضن، ناسياً توجسّك المسبق من الأمراض المعدية التي قد يحملها معهم الوافدون من بيئة أفريقية مفخخة. يُذكر أنّ الجزائري قد يمنح الطفل الأفريقي المهاجر تحية ومالاً ولمسة على الرأس، لكنّه نادراً ما يمنحه حضناً.
والنساء يأتينَ عادة في الصدارة عندما يتعلّق الأمر بالتوجّس، لكنّ تلك المرأة المتأنّقة أخذت زارا في حضنها قبل أن تخرج من حقيبتها هدايا صغيرة. نسألها عمّا دفعها إلى ذلك، فتبوح لـ"العربي الجديد" بأمر مدهش. تقول: "صادفته في المرة الأولى ولم أتفاعل معه، في حين تعلق هو بمعطفي طالباً أن يقبّلني. في تلك الليلة، أصبت بحمّى شديدة، فرأيته في المنام يمنحني الماء البارد وهو يقبّلني. وفي الصباح، أوّل ما فعلته كان البحث عنه. قبّلته عندما وجدته، ونحن الآن صديقان حميمان".
تضيف المرأة، التي فضّلت عدم الكشف عن هويتها، أنّ "زارا ليس طفلاً عادياً، فهو ذكي وعزيز النفس، إلى درجة أنه يردّ عليك ما تعطيه له إذا لم تخلق معه علاقة خاصة. هو يهتمّ بتقبيلك أكثر من اهتمامه بالأخذ منك. وفي حال عبست في وجهه وأنت تعطيه المال، فإنّه يرفض أن يمدّ لك يده. وهذا سلوك نادر جداً عند أترابه من الجزائريين والأفارقة الذين اضطرتهم الظروف إلى العيش على حساب المحسنين".
في شارع مستغانم، وسط مدينة وهران، يحمل زارا صحناً أبيض صغيراً، ويولي اهتماماً للترامواي وهو يجتاز الشارع، أكثر من اهتمامه بالعابرات والعابرين. ثمّ يتوقف فجأة ويركز على أحدهم ويتأمّله جيّداً قبل أن ينطلق إليه. يقول الممثل أمين رارة لـ"العربي الجديد" إنّه "يحتكم إلى روحه في اختياره للناس. وقد صار شائعاً في المدينة أنّ الذي لا يبتسم زارا في وجهه ولا يمدّ له يده، هو غير جدير بحب الأطفال له، لأنّه غير لطيف، حتى لا نقول شرّيراً".
تعمّدنا التموضع في إحدى الزوايا لرصد الأفعال وردود الأفعال المتعلّقة بصديق المدينة الطارئ، فلاحظنا أنّ كثيرين يتفاعلون معه من باب الحبّ لا الشفقة. بعضهم يحضر له لباساً، ولا يكتفي بمنحه له بل يبقى حتى يراه عليه. والبعض الآخر يعيد ترتيب لباسه أو يمسح ما يعلق به من أوساخ. أمّا الذين يلتقطون معه الصور، فإنّهم يعبّرون عن فرحتهم بذلك. ويقول أحدهم: "كأنني التقطت صورة مع نجم رياضي أفريقي معروف".
في البداية، قد يحسّ المرء بأنّ زارا بلا أسرة، إذ إنّه يظهر وحده ويتصرّف كرجل ناضج لا يحتاج إلى أحد. لكن سرعان ما تسمع أمّه تناديه من آخر الشارع وهي تقبض على يد أخته. تقول: "إنّهما كلّ ما بقي لي، بعدما قتل الإرهابيون أباهما في هجومهم على تمبكتو. فقررت أن آتي بهما إلى الجزائر، لكثرة ما سمعت عن الخير والخيّرين فيها". وتخبر أمّ زارا أنّ "الأمر استغرق شهرَين حتى وصلنا إلى مدينة أدرار في الجنوب الجزائري، حيث مكثنا ثلاثة أشهر. لكنّ كثرة المهاجرين الأفارقة فيها وصرامة المراقبة الأمنية اضطرتاني إلى التوجّه نحو الشمال". تضيف الوالدة: "ما إن وصلنا إلى وهران حتى تعلق الناس بولدي، وباتوا يعاملونه معاملة خاصة أمّنت لنا ما نحتاجه من اهتمام وطعام". نسألها إذا كانت تخاف على زارا عندما يبتعد عنها، لا سيّما عندما يأخذه بعض الأشخاص إلى بيوتهم ويحمّمونه ويبدّلون له ثيابه، فتجيب باطمئنان تام: "لقد حظي ولدي بتعويذة من شيخ صالح في تمبكتو، قال إنّها تقيه من الشر والأشرار".
تجدر الإشارة إلى أنّ بعض الجزائريين ينظرون إلى المهاجرين الأفارقة غير الشرعيين الذين غزوا شوارعهم، في الآونة الأخيرة، بشيء من الاشمئزاز، إذ إنّ كثيرين منهم عبروا الحدود بعيداً عن المراقبة الأمنية والصحية، مع ما يترتّب على ذلك من مشكلات وأمراض. ويأتي ذلك ليخالف نظرتهم إلى الوافدين إلى البلاد بطرقة قانونية مثل الطلاب الجامعيين. في المقابل، يرى الأفارقة الوافدون من الجنوب، خصوصاً من مالي والنيجر المجاورتَين، الجزائر على أنّها الفضاء الحلم، تماماً مثلما يرى الجزائريون أوروبا، وذلك نظراً إلى الفارق الواضح في التنمية وفرص العيش. كذلك، فإنّ الجزائر تمثّل لبعض هؤلاء بوابة مفتوحة تؤدّي إلى الجنة الأوروبية. وفي السياق، تتضارب الأرقام الخاصة بعدد الأفارقة في الجزائر، لكنّها بحسب ما يفيد مصدر في وزارة التضامن الوطني تتراوح ما بين 25 ألفاً و40 ألفاً، ويمثّل الهاربون من الحروب والفقر ثلاثة أرباع المجموع.