المنظّمات الإنسانية التي أُنشئت سعياً إلى مساعدة الشعوب المتضررة من جراء الأزمات والحروب والفقر وغيرها، لم تعد بمنأى عن الانتهاكات. ويوماً بعد يوم، تصدر تقارير تشير إلى تورّط موظفين إضافيين في استغلال الأطفال جنسياً.
تزداد نسبة الاستغلال الجنسي والتحرّش بالأطفال، بشكل عام. خلال العام الماضي، أغلق معسكر للاجئين القصّر في إحدى المناطق في جنوب الدنمارك، بسبب اتهام مديرته باستغلال القصّر جنسياً. وما كشفته وتكشفه الأحداث والتقارير حول انتشار التحرّش والاستغلال الجنسي بين موظّفي المنظمات الإنسانية والأمم المتحدة، بات يبعث على القلق، من بينها منظمة الصليب الأحمر الدولي.
على الموقع الرسمي للمنظمة الدولية، نُشر بيان صحافي، في 23 فبراير/شباط الماضي، يعترف بتسريح 21 موظفاً أو أكثر، بعد تحقيقات حول الاستغلال الجنسي تعود إلى عام 2015. ويقول مدير المنظمة، إيف داكور، إن تلك الممارسة تعد خيانة للناس الذين نسعى إلى خدمتهم، "وذلك يتعارض مع كرامة الإنسان وقيمه، وكان يجب أن نكون أكثر يقظة".
وإذا كان الصليب الأحمر يخفّف من عدد الموظفين المفصولين "من أصل 17 ألف موظف حول العالم"، إلّا أنّ المسألة ليست بالأعداد التي لم ينتبه فيها المعنيّون إلى ممارساتهم، خلال السنوات الثلاث الماضية، بل في "شمولها أشخاصاً في مناصب حساسة، واتساع نسبة الاستغلال الجنسي في قطاع المساعدة الإنسانية الذي تحوّل إلى صناعة، في الفترة الأخيرة"، بحسب الموظفة السابقة في منظمة إنسانية إسكندنافية تعمل في مختلف أنحاء العالم، أنيتا. هذه السيدة، التي أمضت 20 عاماً من حياتها كمتطوعة وموظفة، والتي تحفظت على ذكر اسمها الكامل بسبب شهاداتها في قضايا الاستغلال الجنسي، تقول: "المفزع في الأمر، أن القضية أكبر مما يُكشف عنه، ونطاقها يتجاوز منظّمة واحدة".
مؤخّراً، كُشف النقاب عن قيام موظفين في منظمات إنسانية عدة باعتداءات جنسية واستغلال الأطفال، ما أثار ذعراً في الدول الممولة، خشية أن يكون مواطنوها منخرطين في أفعال مماثلة. واللافت بالنسبة للمتابعين أن بعض الموظفين في منظمات إنسانية "كانوا بصدد التحقيق في مزاعم استغلال الأطفال جنسياً، قبل أن ينخرطوا في اعتداءات جنسية بحق هؤلاء الأطفال"، وفقاً لما يكشفه التلفزيون السويدي "أس تي في نيوز".
منظّمة "أوكسفام" البريطانية لم تكن بمنأى عن الاستغلال الجنسي. واضطر نائب المدير العام، بيني لاورنس، إلى الاستقالة، بعدما كشف تقرير نشرته صحيفة "التايمز" البريطانية عن انتشار الاستغلال الجنسي، بعد زلزال هايتي في 2010، خصوصاً بحق الأطفال والقصّر، واتهام نحو 120 موظفاً، العام الماضي، باعتداءات وانتهاكات جنسية. ويعتقد، على نطاق واسع، أن الاستغلال والاعتداءات الجنسية أوسع مما توصلت إليه التحقيقات الأولية.
أبعد من "أوكسفام"، منظّمة الأمم المتحدة انخرطت في فضائح، على مدى السنوات الماضية. وكان بيانها الشهير عام 2003 في نيويورك عن "صفر تسامح"، قد أعقب سلسلة من الفضائح في تسعينيات القرن الماضي، خصوصاً قوات حفظ السلام. وأشارت التقارير إلى اعتداءات جنسية بحقّ القصّر والأطفال، خصوصاً في المجتمعات المحلية الضعيفة نتيجة الفقر والحروب، على غرار البوسنة والهرسك وكوسوفو وكمبوديا وتيمور الشرقية وغرب أفريقيا وجمهورية الكونغو وهايتي وليبيريا وجنوب السودان.
والأفظع في قضايا الاستغلال التي مارسها بعض جنود وموظفي البعثات الأممية، هو تستّر الأمم المتحدة على تلك الفضائح والممارسات البشعة حتى ربيع عام 2017، ما أدى إلى خسارة الدبلوماسي السويدي، أندرس كومباس، منصبه، بعد إعداده تقريراً مفصّلاً عن الاستغلال الجنسي الممارَس من قبل جنود وموظفي الأمم المتحدة بحق أطفال في أفريقيا، لا يتجاوز بعضهم الثماني سنوات من العمر. وعُرضت شهادات بعضهم في فيلم وثائقي سويدي، وكانت "قاسية جداً ولغتها فظيعة"، وكلّها تدور حول مقايضة لقمة الخبز لأطفال جوعى بممارسات جنسية شاذة. "جنود بيض عيونهم زرقاء طلبوا مني أن أفعل (....) في مقابل الطعام. كان الأمر منتشراً بين أصدقائي. هؤلاء سيعطونك طعاماً إن قمت بما يطلبونه". هذه واحدة من بين شهادات كثيرة لفتية وفتيات عرضها الوثائقي السويدي.
هذه الاعتداءات في جمهورية أفريقيا الوسطى، خصوصاً بعدما كشفت تقارير أممية مسربة، في إبريل/نيسان في عام 2015، عن استغلال 15 جندياً فرنسياً لأطفال، دفعت مدير عمليات حقوق الإنسان في المنظمة الدولية في جنيف، أندرس كومباس، إلى بدء التحقيق. واللافت أن الأمم المتحدة فصلت كومباس، رغم أن لجنة تحقيق مستقلة أثبتت كل ما جاء في تقريره الشامل. خلال العام الماضي، خرج كومباس عن صمته، في ظل زيادة الفضائح. وتحدث لتلفزيون وصحف في بلاده عما جرى في كواليس الأمم المتحدة، والتستر على موظفين اعتدوا على أطفال ما بين 8 و13 عاماً، عدا عن الاستغلال الجنسي للنساء أثناء الحروب والأزمات. أضاف: "هؤلاء لا يأبهون كثيراً بحقوق المرأة أو الطفل، ولديهم نظرة مختلفة تماماً عن نظرتنا الحقوقية. ويرى بعضهم أنه يجب قوننة الدعارة حول العالم. هؤلاء موظفون في الأمم المتحدة".
السويد لم تتخل عن الدبلوماسي كومباس. وفي خريف عام 2017، عيّنته سفيراً في غواتيمالا، كرسالة واضحة من الخارجية السويدية إلى الأمم المتحدة عن الفساد فيها، بحسب الصحافة السويدية.
وخلال الاطلاع على مراسلات داخلية بين مكاتب الأمم المتحدة، وهو ما عرضه تلفزيون السويد في وثائقي من حلقتين، يتبيّن أن معظم العاملين في الأمم المتحدة يعرفون بشأن الاعتداءات الجنسية بحق الأطفال. كما أن المنظمات المعنية بحقوق الإنسان والطفل (اليونيسف على سبيل المثال) كانت تدرك خطورة الأمر.
وإذا كانت الأمم المتحدة، التي تبّنت شرعة حقوق الإنسان، والتي تدافع عن حقوق الأطفال، وصل بها الحال إلى حدّ التستّر على الفساد، فليس مستغرباً أن الاعتداءات والاستغلال الجنسي باتت اليوم تُطاول منظمات غير حكومية عالمية ذات مصداقية. إضافة إلى "أوكسفام"، تعترف منظمة "أطباء بلا حدود"، في تقرير حديث، أن عام 2016 شهد إنهاء عقود 10 أشخاص انتهكوا حقوق الأطفال، من خلال اعتداءات جنسية، وجرى أيضاً تحذير وإيقاف 9 آخرين أثناء التحقيقات في ما هو منسوب إليهم. والتحقيقات ما زالت مستمرة، علماً أن "أطباء بلا حدود" تنتشر في نحو 70 بلداً، وتضم نحو 42 ألف موظف محلي ودولي.
كما لم تكن منظّمة "أنقذوا الأطفال" بعيدة. وبحسب تقارير صادرة في عام 2016، تبيّن أن هناك 37 اعتداء جنسيا واستغلالا للوظيفة بهدف التحرّش بالصغار والكبار. هذه المنظّمة التي يفترض أنها تُدافع عن حقوق الأطفال حول العالم، طردت مؤخراً 19 موظفاً حامت حولهم شكوك تتعلق بالاستغلال الجنسي، في وقت تذكر التقارير أن "هذه القضايا تعود إلى سنوات ماضية". وفي عام 2017، أشارت تقارير إلى 35 قضية. وفي العام الذي سبقه، وصل عدد القضايا إلى 193، ما أدى إلى فتح 53 تحقيقاً، فيما وصل 20 ملفاً إلى الشرطة.
ولم تكن المفوضيّة السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بمنأى عن الشكوك، حول الاستغلال الجنسي والتحرّش. وأعلنت أيضاً أنها تجري تحقيقات داخلية، غير تلك التي كشفت طرد موظفين في العام الماضي. ويصعب أن تتمكّن المفوضية المنتشرة في 130 بلداً من تقديم "كل الحالات إلى الشرطة والقضاء في الدول التي نعمل فيها". إلا أن حديث المفوضية الدائم عن "الانتهاكات الجنسية بحق اللاجئين"، تزامناً مع تقارير تتحدّث عن تورّط بعض موظّفيها، يؤثّر على مصداقيتها.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2017، كشفت تقارير رسمية أممية أن موظفي الأمم المتحدة الميدانيين، وخلال 3 أشهر بدءاً من يوليو/تموز وحتى سبتمبر/أيلول من العام نفسه، اتُهموا بـ 31 قضية استغلال جنسي، ما اعترفت به منظمة الأمم المتحدة، في أواخر أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وعلى الرغم من تقارير الدبلوماسي السويدي كومباس، التي كشف فيها النقاب عن استغلال القبعات الزرقاء للأطفال جنسياً في أفريقيا الوسطى، كشف تقرير الأمم المتحدة عن 12 اعتداء في أفريقيا الوسطى ومالي، ما يعني أن التستر وإسكات مسؤول العمليات الميدانية كومباس، لم يوقف هذه الاعتداءات على الإطلاق. وتشير الأمم المتحدة إلى وجود 15 قضية استغلال جنسي في مفوضية اللاجئين، و3 قضايا في منظمة الهجرة الدولية، وقضية في "اليونيسف".