يواصل المستوطنون الإسرائيليون الاعتداء على الفلسطينيين من أهالي القدس المحتلة، من دون رادع لهم، إذ يقف الاحتلال بأمنه ومحاكمه معهم
يستهجن نضال الفقيه، وهو سائق مقدسي يعمل لدى شركة حافلات إسرائيلية، قرار محكمة الصلح في القدس المحتلة، اعتبار الاعتداء الفاشي الذي تعرّض له من مجموعة من المتطرفين اليهود الأسبوع الماضي مجرد شجار، ولا يندرج في إطار الاعتداءات ذات الخلفية العنصرية أو التي تحمل دوافع كراهية على أساس قومي وعرقي.
يقول الفقيه لـ "العربي الجديد" إن قرار قاضية المحكمة كان متوقعاً، لأن الاعتداءات التي وقعت سابقاً، وكان ضحاياها مواطنين فلسطينيين، لم يلاحق مقترفوها حتى بوجود أدلة قاطعة استناداً إلى إفادات الشهود وأفراد شرطة الاحتلال، إضافة إلى مقاطع فيديو وثقت اعتداءات المستوطنين على خلفية عنصرية في القدس المحتلة وفي مناطق الضفة الغربية، وتحديداً في الخليل.
وكان الفقيه قد تعرّض لهجوم من قبل 12 مستوطناً، بينهم فتاتان، وضرب بالآت حادة في محطة الحافلات، ما أدى إلى كسور في وجهه. ويقول إن ما جرى لم يكن نتيجة خلاف على الدخول إلى موقف الحافلات مع سائقين آخرين، بل كان اعتداءً مقصوداً من قبل معتدين سدوا عليه طريق الدخول بعدما علموا بأنه عربي. وحين طلب منهم فتح الطريق أمام الحافلة صعدوا إليها تباعاً وشرعوا بضربه على نحو هستيري وهم يصرخون ويشتمون العرب. يضيف أن "أحد زملائي من أبناء القدس تدخل واشتبك معهم بالأيدي محاولاً إبعادهم عني، بينما كنت أدافع عن نفسي. لكن عددهم كان كبيراً. طلبت حضور شرطة الاحتلال إلا أنّ أفرادها لم يأتوا على وجه السرعة لأن الضحيّة ليس يهودياً. لو كان يهودياً، لحضروا بسرعة البرق".
وقرّرت القاضية إطلاق أحد المعتدين الـ12 الذي اعتقل، حتى إنها وبّخت شرطة الاحتلال لاعتقاله من دون مبرر، إلا أن النيابة العامة أكدت أن الاعتقال تم وفق القانون. قرّر الفقيه ترك العمل لدى الشركة الإسرائيلية، مشيراً إلى أنّه كان قد تعرّض سابقاً لاعتداء من متطرفين سجّل ضد مجهول. وتعززت قناعته بضرورة ترك عمله على الرغم من مرور ثماني سنوات، بسبب ما قاله مسؤول الشركة ورفضه طلب زملائه تنظيم احتجاج ضد الاعتداء. المسؤول اتهمه بالتسبب بالمشاكل وبالتالي حمله مسؤولية ما حدث. يتابع: "لم تعد حياتي آمنة هناك، ولا أعتقد أن حياة العشرات من زملائي السائقين المقدسيين آمنة، إذ غالباً ما يتعرضون لاستفزازات ومحاولات لجرّهم لشجارات".
اليوم، في منزله الواقع بحيّ رأس خميس، يرتاح الفقيه في انتظار شفائه تماماً، ويتوافد إلى منزله مهنّئون بسلامته، بمن فيهم زملاؤه العاملون في الشركة نفسها. ويستعد عدد منهم للاستقالة نتيجة الاعتداء الوحشي الذي تعرّض له زميلهم، وتواطؤ مسؤول الشركة مع المعتدين.
ويذكر أنّ سائقاً مقدسياً آخر كان يقود حافلة تابعة لشركة "إيغد" (شركة نقل إسرائيلية)، ويدعى يوسف حسن الرموني (32 عاماً) من حي الطور (إلى الشرق من البلدة القديمة من القدس المحتلة)، استشهد في السابع عشر من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2014، بعدما وُجد مشنوقاً داخل الحافلة في منطقة "هارحتسوفيم" قرب بار إيلان غرب القدس المحتلة.
وتؤكد عائلته وزملاؤه أنه قتل خنقاً على أيدي مستوطنين كانوا في المحطة، فيما ادعت شرطة الاحتلال آنذاك أنه انتحر. ويقول أحد زملائه لـ "العربي الجديد"، ويدعى محمد السكافي، إنه لاحظ على جسد الشهيد آثار اعتداء وضرب وعلامات شنق حول العنق، وقد بدا ذلك ظاهراً بعد الكشف عنه في المستشفى والعثور عليه في الحافلة. ويسأل: "كيف يمكن لأي إنسان أن يشنق نفسه داخل المركبة؟ هل علّق يوسف جسده بالسقف حتى يقتل نفسه بهذه الطريقة البشعة؟".
وكان والد الشهيد قد قال في حديث سابق لـ "العربي الجديد" إن نجله يوسف تعرّض لاعتداء قبل خمسة أشهر من استشهاده من قبل مستوطنين، ما اضطره إلى ترك عمله قبل أن يعود إليه مجدداً ويستشهد.
ويذكر أنّه على مدى السنوات الخمس الماضية، سجل عدد كبير من الاعتداءات استهدفت مقدسيين، من دون أن يلاحق أو يحاسب مقترفو هذه الجرائم، وكان آخرها اعتراض نحو خمسين مستوطناً مسلحين بالهراوات والسكاكين والغاز المسيل للدموع مركبة خاصة يقودها الشاب إسلام أحمد أبو عيشة من ضاحية السلام بعناتا، وقد نجا واثنين من أصدقائه من موت محقق. ويروي أبو عيشة لـ "العربي الجديد" أن الحادث وقع على مقربة من مفترق بيت إيل، حيث لقي جنديان إسرائيليان مصرعهما برصاص مقاومين، فأحاط المستوطنون بالمركبة وحطموها محاولين إخراجه وزملاءه منها، بينما كان الجنود يتفرجون على المعتدين. يضيف: "حاولنا التحرك والانطلاق بالسيارة، إلا أن الجنود وضعوا أسلحتهم فوق رؤوسنا. وفي تلك اللحظة، حضرت دورية من شرطة الاحتلال الخاصة وأبعدت المعتدين بينما اشتبك أفرادها مع الجنود. هربنا من المكان، ولولا العناية الإلهية لكنا الآن في عداد القتلى".
ويمثّل الاعتداء اليوم على ممتلكات المواطنين في حي الغرابلة في بيت حنينا شمال القدس المحتلة، نموذجاً آخر من عنف المستوطنين وكراهيتهم العمياء للفلسطينيين، كما يقول محمد غرابلي من سكان الحي لـ "العربي الجديد". وقد عمد مستوطنون من مستوطنة "بسغات زئيف" الملاصقة للحي إلى تخريب إطارات سيارته، وكتبوا شعارات عنصرية على جدران منزل عائلته. يقول: "خربوا إطارات نحو سبعين سيارة في أوسع اعتداء على الممتلكات يسجل خلال السنوات الأخيرة. وما حدث من اعتداء اليوم لم يكن الأول، فقد سجلت اعتداءات عدة بحق سكان الحي والمقدسيين في المستوطنة، علماً أن اللجنة التي تدير المستوطنة معروفة بيمينيتها وتطرفها تجاه العرب".
وما ذهب إليه الفقيه وأبوعيشه والغرابلي، تؤكده آلاف الإفادات وأشرطة الفيديو والتقارير والمتابعة الطويلة الأمد من منظمة "بتسيلم" الإسرائيلية، ومؤسسات أخرى تتهم قوات الاحتلال بالسماح للمستوطنين على نحوٍ روتينيّ بإلحاق الأذى بالفلسطينيّين، بل إنها ترافق المستوطنين خلال تنفيذ اعتداءاتهم وتدعمهم وتؤمّن لهم الحماية، وأحياناً تنضمّ إلى صفوفهم.
وفي معظم الاعتداءات، تُغلق ملفّات التحقيق (إذا فُتحت أصلاً) من دون التوصّل إلى شيء.
وبحسب معطيات نشرتها مؤسسة "يِش دين" في مايو/ أيار عام 2015، خلال عشر سنوات من عملها، يتبيّن أن نحو 85 في المائة من ملفّات التحقيق التي فتحت في أعقاب الاعتداءات وإصابة الفلسطينيّين أغلقت من دون التوصل إلى شيء، واحتمالات أن تنتهي شكوى قدّمها فلسطيني لدى الشرطة بإدانة مستوطن إسرائيلي لا تتعدّى 1.9 في المائة. وبسبب هذه السياسة، يتخلى العديد من الفلسطينيّين سلفاً عن تقديم شكوى إلى الشرطة بشأن الجرائم المرتكبة بحقهم.