حلاقو الأجيال العربية في فرنسا

26 نوفمبر 2018
في باريس منذ عام 1968 (العربي الجديد)
+ الخط -

لكلّ مهنة حكاياتها لدى الجالية العربية في فرنسا، ولكلّ جيل حكاياته التي يمتزج فيها الألم بالأمل. أما حكاية الحلاقين المهاجرين فتجمع كلّ الحكايات مع تعاقب الأجيال.

يؤكد الحلاق، مولاي علي أفيلال، الذي عمل في الحلاقة في المغرب قبل أن يمرّ بالجزائر ثم يعبر في سفينة إلى مارسيليا بفرنسا، ومن بعدها إلى العاصمة باريس، أنّ عدداً من الحلاقين وصلوا إلى فرنسا مع الجيل الأول من المهاجرين، لكنّ مهنتهم تطورت لاحقاً تبعاً للظروف الجديدة في الغربة وما فيها من أحلام وآلام.

وصل علي أفيلال إلى باريس، تحديداً إلى الحي الشعبي الغاصّ بالعرب والمهاجرين، سنة 1968. وإذا كانت الأحياء الشعبية والضواحي تعج، الآن، بصالونات الحلاقة، التي يعمل فيها عرب وأفارقة، مع تزايد كبير لحلاقين باكستانيين وهنود وسريلانكيين، فإن الأمر لم يكن على هذه الشاكلة، في بدايات الحضور العربي. ويؤكد علي أفيلال أنّ الحلاقة العربية في فرنسا تطورت بتطور مسارات الهجرة.

لا يعتبر علي أفيلال نفسه مختلفاً عن المهاجرين الذين يشتغلون في مهن مختلفة، فقد كان همه الرئيس هو العمل بلا توقف، من أجل إعانة عائلته التي ظلت في المغرب، وجمع قدر من المال يسمح له بمغادرة المهجر والعودة إلى مسقط رأسه. وطبعاً، طال الأمد، ولم يعد علي أفيلال ولا رفاقه إلى بلادهم، بالرغم من تقاعدهم، وباتوا يعيشون ما تبقى من أعمارهم بين هنا وهناك.




عمل علي أفيلال في صالون صغير، لكنّ العائدات المالية لم تكن محفزّة، وهو ما دفعه للعمل ليلاً في مساكن العمال: "كنت أحمل المشط والمقص، وأحلق رؤوسهم". بدأ ينتقل بين مأوى وآخر لهم: "كان هؤلاء لا يحلقون رؤوسهم إلاّ في ما ندر، وليس كما الآن. فقد كانوا يريدون أن يقتصدوا في كلّ شيء، بالإضافة إلى أنّي كنت أطلب ثمناً متواضعاً، وكثيرون كانوا يحلقون بالدين ويدفعون لاحقاً".

ارتباط الحلاقة شديدٌ بالهجرة، ومع الجيل الأول، كانت المهنة ضعيفة. ثم تحسّنت، كثيراً، مع الجيل الثاني، أي حين كبر أبناء الجيل الأول الذين قرروا إحضار عائلاتهم. وهذا الجيل الثاني، الذي وجد في وصول الرئيس فرانسوا ميتران إلى السلطة فرصة سانحة للمطالبة بالمساواة، لم يكن يريد إلاّ أن يعيش كما يعيش الفرنسيون الآخرون. يتذكر علي أفيلال المسيرة الكبرى، عام 1983، التي نظمها هؤلاء الشباب في ربوع فرنسا قبل وصولهم إلى العاصمة، يوم 3 ديسمبر/ كانون الأول بحضور 100 ألف شخص، ويقول إنّ من حسناتها قبول الرئيس ميتران منح بطاقة إقامة عشر سنوات لكثير من أبناء الجالية العربية.

يتابع علي أفيلال: "بدأ أبناء الجيل الثاني يطلّون برؤوسهم، خلافاً لأبناء الجيل الأول، ممن كنا نذهب للبحث عنهم في مآويهم من أجل الحلاقة لهم". ومع هذا الخروج إلى العلن، خرجت الحلاقة إلى العلن، بشكل أكبر، وهنا "اختلف الزبائن، فأصبحنا نستقبل جمهوراً مختلفاً، من جيل الشباب، معروف بالعناد، ولا يقبل بقصّ عادي للشعر، كما الآباء، بل يريد صرعات وموضات وتقطيعات جديدة. وهذا ما دفع كثيراً من الحلاقين التقليديين للانزواء بعيداً عن هذا الجمهور".

شهادة علي أفيلال المهنية (العربي الجديد) 


لم يكن علي أفيلال، من هؤلاء المنزوين، ويصر على أنّه كان دائماً "شبابيّاً" في عقله، فلم يكن تطور الذهنيات ولا تطور فن الحلاقة عائقين أمام مقصه ومشطه ودقة أنامله. كيف لا، وهو حاصل على دبلوم الحلاقة في فرنسا، ثم أصبح عضواً نشيطاً في الكونفدرالية الوطنية للحلاقة الفرنسية، وشارك في بطولات عالمية جرت في مدينة كان، وحصد فيها عدة ميداليات ذهبية، إلى أن أصبح حكماً دولياً في هذه المهنة.

ولأنّ هذه المهنة، شأنها شأن مهن أخرى، تعيش فترات رواج ثم كساد، من دون إهمال عامل المنافسة، خصوصاً مع وصول حلاقين هنود وسريلانكيين، يحلقون بأثمان زهيدة، انتقل علي أفيلال بين أحياء ومناطق عديدة، وفي الثمانينيات من القرن الماضي، اشتغل في صالون للحلاقة مع زميل له في حيّ من أحياء دائرة باريس الرابعة عشرة، حيث الجمهور في أغلبيته فرنسي، وحيث الجودة والإتقان هما الشرطان الضروريان للاحتفاظ بالزبائن، وهو ما كان يتجلى في استقباله لجمهور مختلف ومتنوع، بين الشباب وكبار السنّ.

الأناقة شرط من شروط الحلاق، ولا تقتصر الأناقة فقط على الملبس، بل على رشاقة الأنامل، وضربات المقص. ومع سؤال حلاق آخر هو، عبد الجواد، عن نظرة الفرنسيين إلى الحلاقين العرب، يقول: "من تجربتي الشخصية، أعترف أنّي عانيتُ في البدايات من نفور الفرنسيين، لكن، مع الزمن، وحين اكتشف كثيرون أنّ لديّ مهارة وأساليب مميزة قصدوا صالوني". لكنّ علي أفيلال يختلف بعض الشيء في الإجابة، بالنسبة إليه "الحلاقة مهنة ديمقراطية، لأنّها تضع تحت رحمة مقصك أناساً من انتماءات وأعراق مختلفة ومن شرائح اجتماعية متنوعة، وعلى الحلاق أن يكون جيداً فحسب ويبحث عن الإتقان، حتى يضمن رضى الزبون".



"الحلاقة فنّ"، كما يصر علي أفيلال على التذكير، والفن لا حدود ولا نهاية له، وهو السبب الذي جعله لا يتقاعد بالرغم من تجاوزه سن التقاعد، فما زال مع بلوغه الرابعة والثمانين، يتنقل بمقصه النشيط، بين باريس والدار البيضاء، إذ يملك صالوناً في كلّ مدينة. وإذا كان كثير من الحلاقين، لا يجدون أثناء الفترات المؤلمة والطويلة لانتظار الزبون، من حلّ، لقتل الوقت، سوى الثرثرة في ما بينهم أو قراءة الجرائد المجانية والانشغال بالكلمات المتقاطعة، فإنّ علي أفيلال، الرجل العصامي، الذي لا يعرف مبادئ النحو والصرف، عثر على حلّ سحري لها، وهو كتابة الروايات والقصص، وفي جعبته وجعبة المكتبات العربية نحو ثلاثين رواية وكتاباً. فماذا عن الفنّين: الحلاقة والكتابة؟ يقول: "الحلاقة أعيش بها، والكتابة أعيش لها".
دلالات