حنين إلى عراق العهود السابقة

10 أكتوبر 2018
حتى في عام 1990 كانت حرية النساء أكبر (Getty)
+ الخط -

يتحسّر العراقيون وهم يطالعون صوراً ومقاطع فيديو لمدنهم وبلداتهم، تعود إلى عقود خلت. فالحياة في ذلك الحين كانت أقل تعقيداً خالية من العنف والفوضى المصاحبة لعراق الزمن الحاضر.

يفتقد أهل العراق كثيراً من الأمور التي تمتع بها آباؤهم وأجدادهم في منتصف القرن العشرين، منها ذلك القدر الكبير من الحرية الذي كانت النساء يتمتعن به ويحترمه المجتمع. فكثيرات منهن اليوم لا يخرجن إلى الشارع إلّاّ للضرورة الملحّة، بسبب تعرضهن إلى التحرش، وهي الحالة التي غدت منتشرة بشكل واضح في البلاد.

في بحث بسيط على مواقع التواصل الاجتماعي، تظهر حسابات عدة متخصصة بنشر معلومات وصور ومقاطع فيديو لوقائع ومدن وشخصيات عراقية قديمة. في كثير منها يبرز مجتمع متقدم كان يعيش فيه الآباء والأجداد، ما يزيد شباب اليوم حسرة. ويتحدث منقذ عبد الرحمن، لـ"العربي الجديد"، وهو يتصفح حساباً على أحد مواقع التواصل، متخصصاً بنشر أحداث وصور قديمة من العراق، وهو يشير إلى صورة قديمة تعود إلى خمسينيات القرن الماضي، تظهر فيها شابات يرتدين تنانير قصيرة وقمصاناً بلا أكمام، ويبدو عليهن الفرح وهن يجلسن في حديقة عامة. يعلق عبد الرحمن أنّ "هذه الصورة قياس جيد لما بات عليها الحال في العراق اليوم".

يعتبر الرجل المولود عام 1945 أنّ "العراق انفتح على العالم في الحقبة الملكية (1921-1958) وكانت قيادة المجتمع تتولاها الطبقة المثقفة الواعية، ولاحقاً أصبحت النساء قياديات في مناصب عالية بالمؤسسات الحكومية"، لافتاً إلى أنّ "احترام الآخر سمة كان المجتمع في هذه الحقبة يتمتع بها، ولم يكن أحدهم ينتقد الآخرين على معتقداتهم وانتماءاتهم، وكانت بعض النساء يُشاهدن في وقت متأخر من الليل وهنّ عائدات من مواقع عملهن، أو من مناسبة ما، من دون أن يتعرض لهن أحد... للأسف هذا كله افتقدناه اليوم". يضيف: "المجتمع تغيّر كثيراً في الوقت الحاضر. تضطر نساء كثيرات لارتداء الحجاب الكامل رغماً عنهن، بسبب تعرض غير المحجبات للتحرش. هذه الحالة الشاذة لم تكن موجودة في السابق".




من بين أبرز مقاطع الفيديو التي تناقلها العراقيون على مواقع التواصل الاجتماعي فيلم وثائقي باللغة الإنكليزية جرى تصويره لصالح تلفزيون أجنبي في خمسينيات القرن الماضي. هذا المقطع يظهر التقدم الذي بدأ يشهده العراق في ذلك الحين، والذي شمل قطاعات مختلفة، ويؤكد التقرير أنّ للنساء دوراً بارزاً في حركة التقدم تلك. عدد آخر من المقاطع دمجت فيه مقاطع مصورة عن الحياة في العراق قبل عشرات السنين، ويظهر فيها الناس وهم يمارسون أعمالهم ونشاطاتهم اليومية. وفي كلّ هذه المقاطع التي تنقل حياة العراقيين في تلك الفترات تأتي تعليقات موحدة في الرأي على مواقع التواصل من قبل المواطنين، إذ تجمع على أنّ الحياة في السابق كانت أجمل وأكثر سعادة وأمناً، متمنين عودتها.

نور الدين السامرائي نشر صورة قديمة لحفل زفاف أحد أصدقائه تعود إلى مطلع ثمانينيات القرن الماضي، فنالت الصورة تفاعلاً كبيراً، ولم تكن التعليقات فقط لأصدقاء السامرائي بل لآخرين لا يعرفهم رأوا في هذه الصورة فترة جميلة كان يعيشها العراق. يقول لـ"العربي الجديد": "لست رجلاً مشهوراً، بل مستخدم عادي. ولم تحصل أيّ من منشوراتي السابقة على تفاعل كبير، لكن يبدو أنّ صورة زفاف صديقي أثارت شجون من رأوها، لذلك علقوا بحبّ، معبرين عن شوقهم لتلك الفترة، كون الناس حينذاك كانوا يعيشون في أمان ولم يكن هناك فقراء أو محتاجون أو مشردون مثلما هو واقع الحال اليوم".

تظاهرة نسائية ببغداد في عام 1990 تنديداً بمجازر الاحتلال الإسرائيلي في القدس (Getty)

الصور التوثيقية من بين أكثر البضائع التي يرغب في شرائها الناس في محلات المصنوعات القديمة والحاجيات المستعملة، بحسب، غسان جواد، الذي يبيع هذا النوع من البضائع في بغداد. يؤكد لـ"العربي الجديد" أنّ "المتعارف عليه هو أن يرغب كبار السن والصحافيون والباحثون في شراء الصور القديمة تلك، لكنّ ما يثير الانتباه أنّ عشرينيين تجذبهم مثل هذه الصور ويسعون لاقتنائها". وجواد يملك أرشيفاً يضم أكثر من خمسة آلاف صورة، من بينها صور لأزقة وأحياء قديمة، ولمناطق سياحية وشوارع تجارية وساحات عامة: "يشتريها الزبائن لأرشفتها أو تعليقها على جدران المنزل. جميع الشباب الذين يشاهدون هذه الصور يتمنون لو أنّهم عاشوا في تلك الفترة".

عن سبب تفضيلهم فترة زمنية مضت عن الفترة التي يعيشونها اليوم، يؤكد عراقيون أنّ ذلك يعود إلى تميز ماضي العراق بسهولة الحياة آنذاك، التي تشمل توفر السكن لمن يسعى لتكوين أسرة، ووفرة العمل، والأمن، وغياب التمييز الطائفي أو العرقي.




الباحث في التراث البغدادي، عبد الستار الربيعي، يعتبر أنّ سبب الانفتاح والتقدم يومها "يعود إلى الطبقة الغنية، فالمجتمع كان قبل عشرات السنين مقسماً إلى طبقات، وكانت الطبقة الغنية تقود الحراك الثقافي وتعبر عنه وتنتمي إليه وتدعمه". يضيف لـ"العربي الجديد": "لذلك كنا نشاهد العائلات ترتاد السينمات والمسارح وعروض الأزياء، وكانت حركة المعارض الفنية نشطة، إذ تهتم الطبقة الغنية باقتناء اللوحات والأعمال الفنية المختلفة، ليس لمجرد الاقتناء بل كانوا نقاداً للفنون وأصحاب خبرة في هذا المجال". يستطرد: "بفعل هذه الطبقة، كانت النوادي الثقافية والاجتماعية تنتعش، إذ لها الفضل الكبير في رفع مستوى ثقافة ووعي المجتمع، مع تقليد طبقات المجتمع الأخرى لها، فبات التحضر سمة يتصف بها المجتمع في ذاك الوقت". لكنّ الحروب التي شهدها العراق، غيّرت كلّ شيء، بحسب الربيعي: "الطبقة الغنية اليوم هي نتاج الفساد المؤسساتي، وأفرادها في الغالب غير مثقفين، وهو أحد أبرز الأسباب التي أدت إلى تراجع دور الحركة الفنية والثقافية في المجتمع ككلّ".